39ـ مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم: إسلام سيدنا علي واكتشاف أبيه إسلامه

 

 مع الصحابة و آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

39ـ إسلام سيدنا علي واكتشاف أبيه إسلامه

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: إِذَا أَرَادَ اللهُ تعالى أَمْرَاً هَيَّأَ أَسْبَابَهُ، وَلَقَد كَانَ من نِعْمَةِ اللهِ تعالى عزَّ وجلَّ على سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنْ ضَمَّهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى نَفْسِهِ، عِنْدَمَا أَصَابَتْ قُرَيْشَاً أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ من الفَقْرِ والحَاجَةِ.

أيُّها الإخوة الكرام: جَاءَ في الرَّوْضِ الأُنُفِ، عَنْ مُجَاهَدِ بْنِ جَبْرٍ أَبِي الْحَجَّاجِ قَالَ: كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِمَّا صَنَعَ اللهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِهِ مِن الْخَيْرِ، أَنَّ قُرَيْشَاً أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرَةٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ، وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ: «يَا عَبَّاسُ، إنَّ أَخَاك أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزْمَةِ، فَانْطَلِقْ بِنَا إلَيْهِ، فَلْنُخَفِّفْ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ، آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلَاً، وَتَأْخُذُ أَنْتَ رَجُلَاً، فَنَكِلُهُمَا عَنْهُ».

فَقَالَ الْعَبَّاسُ: نَعَمْ.

فَانْطَلَقَا، حَتَّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ، فَقَالَا لَهُ: إنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عَنْك مِنْ عِيَالِك، حَتَّى يَنْكَشِفَ عَن النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ.

فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ: إذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلَاً فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَقِيلَاً وَطَالِبَاً.

فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّاً، فَضَمَّهُ إلَيْهِ، وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفَرَاً، فَضَمَّهُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَعَثَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَبِيَّاً، فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبَّاسِ حَتَّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ.

أيُّها الإخوة الكرام: من هذا المَوْقِفِ نَتَعَلَّمُ خُلُقَ الوَفَاءِ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ يَجِبُ على المُؤْمِنِ أَنْ يُقَابِلَ المَعْرُوفَ بالمَعْرُوفِ، والإِحْسَانَ بالإِحْسَانِ، وهذا مَا أَمَرَنَا بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ اسْتَعَاذَ باللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ باللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفَاً فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» رواه أبو داود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

لَقَد أَرَادَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ المَعْرُوفَ والجَمِيلَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ الذي كَفِلَهُ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَكَانَ هذا الأَمْرُ من أَعْظَمِ وَأَجَلِّ نِعَمِ اللهِ تعالى على سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

لَقَد رَبَّاهُ وَأَدَّبَهُ مَن رَبَّاهُ وَأَدَّبَهُ رَبُّ العَالَمِينَ، لَقَد رَبَّاهُ وَأَدَّبَهُ مَن كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ العَظِيمَ، وَمِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أَنَّ أَثَرَ المُرَبِّي يَظْهَرُ على المُرَبَّى، وَيَكْفِي سَيِّدَنَا عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ شَرَفَاً وَفَخْرَاً وَعِزَّاً أَنَّهُ نَشَأَ في بَيْتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

إِسْلامُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:

أيُّها الإخوة الكرام: السَّعِيدُ حَقَّاً مَن شَرَحَ اللهُ تعالى صَدْرَهُ للإِسْلامِ، وَحَبَّبَ إِلَى قَلْبِهِ الإِيمَانَ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ في مُقْتَبَلِ عُمُرِهِ، وهذا مَا كَانَ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

روى البيهقي عَن ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ثمَّ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ جَاءَ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذلكَ بِيَوْمٍ ـ أَيْ بَعْدَ إِسْلامِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها ـ فَوَجَدَهُمَا يُصَلِّيَانِ.

فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: مَا هذا يَا مُحَمَّدُ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دِينُ اللهِ الذي اصْطَفَى لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، فَأَدْعُوكَ إلى اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَى عِبَادَتِهِ، وَكُفْرٍ باللَّاتِ والعُزَّى».

فَقَالَ عَلِيٌّ: هذا أَمْرٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ قَبْلَ اليَوْمِ، فَلَسْتُ بِقَاضٍ أَمْرَاً حَتَّى أُحَدِّثَ بِهِ أَبَا طَالِبٍ.

وَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْشِيَ عَلَيْهِ سِرَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْلِنَ أَمْرَهُ، فَقَالَ لَهُ: «يَا عَلِيُّ، إِذَا لَمْ تُسْلِمْ فَاكْتُمْ».

فَمَكَثَ عَلِيٌّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثمَّ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى أَوْقَعَ في قَلْبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ الإِسْلَامَ، فَأَصْبَحَ غَادِيَاً إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَهُ، فَقَالَ: مَا عَرَضْتَ عَلَيَّ يَا مُحَمَّدُ؟

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَتَكْفُرُ باللَّاتِ والعُزَّى، وَتَبْرَأُ من الأَنْدَادِ».

فَفَعَلَ عَلِيٌّ، وَأَسْلَمَ؛ فَمَكَثَ عَلِيٌّ يَأْتِيهِ على خَوْفٍ من أَبِي طَالِبٍ، وَكَتَمَ عَلِيٌّ إِسْلَامَهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ.

أَبُو طَالِبٍ يَكْتَشِفُ إِيمَانَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَكْتَشِفُ أَبُو طَالِبٍ إِيمَانَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رَجُلاً عَاقِلاً، وَلَمْ يَكُنْ مُعَادِيَاً للحَقِّ، فَأَيَّدَ وَلَدَهُ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَشَدَّ على يَدِهِ، وَلِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا اللهُ تعالى امْتَنَعَ أَبُو طَالِبٍ عَن الإِيمَانِ خَشْيَةَ قَوْمِهِ من أَنْ يَقُولُوا عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ دِينَ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ.

جَاءَ في الرَّوْضِ الأُنُفِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلَى شِعَابِ مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَخْفِيَاً مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِنْ جَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ فَيُصَلِّيَانِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا، فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا، فَمَكَثَا كَذَلِكَ إلى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثَا.

ثُمَّ إنَّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يَوْمَاً وَهُمَا يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ أَخِي، مَا هَذَا الدِّينُ الذِي أَرَاك تَدِينُ بِهِ؟

قَالَ: «أَيْ عَمُّ، هَذَا دِينُ اللهِ، وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ وَدِينُ رُسُلِهِ وَدِينُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ ـ أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَنِي اللهُ بِهِ رَسُولَاً إلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ أَيْ عَمُّ أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ، وَدَعَوْتُهُ إلَى الْهُدَى، وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي إلَيْهِ، وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ ـ أَوْ كَمَا قَالَ ـ».

فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَيْ ابْنَ أَخِي، إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ واللهِ لَا يَخْلُصُ إلَيْك بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا بَقِيتُ.

وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: أَيْ بُنَيَّ، مَا هَذَا الدِّينُ الذِي أَنْتَ عَلَيْهِ؟

فَقَالَ: يَا أَبَتِ، آمَنْتُ باللهِ وَبِرَسُولِ اللهِ، وَصَدَّقْتُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ للهِ وَاتَّبَعْتُهُ؛ فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَا إنَّهُ لَمْ يَدْعُك إلَّا إلَى خَيْرٍ فَالْزَمْهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: شُعْلَةُ الإِيمَانِ الحَقِّ لا يُمْكِنُ بِأَيِّ حَالٍ من الأَحْوَالِ أَنْ تَنْطَفِي، وَدِينُ اللهِ خَالِدٌ، لأَنَّ اللهَ تعالى تَوَلَّى حِفْظَهُ، فالسَّعِيدُ وَخَاصَّةً في هذهِ الأَزْمَةِ مَن أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بالمُحَافَظَةِ على دِينِهِ من الزَّيْغِ ومن الضَّلالِ، وَوَفَّقَهُ اللهُ تعالى لِعَرْضِهِ بالشَّكْلِ الصَّحِيحِ وبالصُّورَةِ الحَسَنَةِ التي عَرَضَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على النَّاسِ.

اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَنَا للإِسْلامِ، وَحَبِّبْ إِلَى قُلُوبِنَا الإِيمَانَ، وَوَفِّقْنَا لإِظْهَارِ هذا الدِّينِ بالصُّورَةِ الحَقَّةِ التي جَاءَ بِهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 16/ محرم /1437هـ، الموافق: 29/تشرين الأول / 2015م