مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

228ـ « إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ »

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: قَالَ اللهُ تعالى في حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾. وفي هذا دَلِيلٌ على قُوَّةِ بَصَرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَثَبَاتِهِ، لِأَنَّ البَصَرَ إِذَا بَهَرَهُ النُّورُ السَّاطِعُ، إِمَّا أَنْ يَزِيغَ وَيَحَارَ، وَإِمَّا أَنْ يُجَاوِزَ المَنْظُورَ إلى غَيْرِهِ كَلَلَاً وَضَعْفَاً، وهذا لَمْ يَقَعْ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ في ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِمَا أَعْطَاهُ اللهُ تعالى من القُوَّةِ في بَصَرِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَرَى مَا لا يَرَاهُ النَّاسُ.

روى الحاكم والترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ (اِضْطَرَبَتْ) وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدَاً للهِ، واللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلَاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرَاً، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ (الطُّرُقِ) تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ (تَسْتَغِيثُونَ) واللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ (تُقْطَعُ وَتُسْتَأْصَلُ)».

رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لَقَد أَكْرَمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِرُؤْيَةِ سَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ على صُورَتِهِ الحَقِيقِيَّةِ.

روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، وَلَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِن التَّهَاوِيلِ (الأَلْوَانُ المُخْتَلِفَةُ) وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.

وروى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾. قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ.

وروى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ أَعْظَمَ (أَيْ: دَخَلَ في أَمْرٍ عَظِيمٍ) وَلَكِنْ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ (أَيْ: في هَيْئَتِهِ وَحَقِيقَتِهِ) وَخَلْقُهُ سَادٌّ مَا بَيْنَ الْأُفُقِ (أَيْ: مُطْبِقَاً بَيْنَ أُفُقِ السَّمَاءِ).

رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: وَكَذَلِكَ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِرُؤْيَةِ المَلائِكَةِ الكِرَامِ، الذينَ هُم بالنِّسْبَةِ لَنَا من عَالَمِ الغَيْبِ، لَقَد شَاهَدَهُم سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِ رَأْسِهِ الشَّرِيفِ.

روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسَاً فِي الْحَلْقَةِ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْمِ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ.

فَرَدَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ: «وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ».

فَلَمَّا جَلَسَ الرَّجُلُ قَالَ: «الْحَمْدُ للهِ حَمْدَاً كَثِيرَاً طَيِّبَاً مُبَارَكَاً فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا أَنْ يُحْمَدَ وَيَنْبَغِي لَهُ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ قُلْتَ؟»

فَرَدَّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَد ابْتَدَرَهَا عَشَرَةُ أَمْلَاكٍ، كُلُّهُمْ حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَكْتُبَهَا، فَمَا دَرَوْا كَيْفَ يَكْتُبُوهَا حَتَّى يَرْفَعُوهَا إِلَى ذِي الْعِزَّةِ.

فَقَالَ: اكْتُبُوهَا كَمَا قَالَ عَبْدِي».

وروى الحاكم والبيهقي عَن يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللِه، عَن أَبِيهِ، عَن جَدِّهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ قَتْلِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ بَعْدَ أَن الْتَقَى هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الحَارِثِ حِينَ عَلَاهُ شَدَّادُ بْنُ الأَسْوَدِ بالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ صَاحِبَكُم تُغَسِّلُهُ المَلَائِكَةُ».

فَسَأَلُوا صَاحِبَتَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ خَرَجَ لَمَّا سَمِعَ الهَائِعَةَ (وَهِيَ: الصَّوْتُ الشَّدِيدُ عِنْدَ الْفَزَعِ) وَهُوَ جُنُبٌ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ المَلَائِكَةُ».

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ جَعْفَرَاً يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ».

وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ عَلِيِّ بن عَلِيٍّ الْمَكِّيِّ الْهِلالِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي شَكَاتِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، فَإِذَا فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، قَالَ: فَبَكَتْ حَتَّى ارْتَفَعَ صَوْتُهَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَرْفَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: «حَبِيبَتِي فَاطِمَةُ مَا الَّذِي يُبْكِيكِ؟».

فَقَالَتْ: أَخْشَى الضَّيْعَةَ مِنْ بَعْدِكَ.

فَقَالَ: «يَا حَبِيبَتِي، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اطَّلَعَ إِلَى الأَرْضِ اطِّلاعَةً، فَاخْتَارَ مِنْهَا أَبَاكِ، فَبُعِثَ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ اطَّلَعَ اطِّلاعَةً فَاخْتَارَ مِنْهَا بَعْلَكِ، وَأَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أُنْكِحَكِ إِيَّاهُ، يَا فَاطِمَةُ، وَنَحْنُ أَهْلُ بَيْتٍ قَدْ أَعْطَانَا اللهُ سَبْعَ خِصَالٍ، لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَبْلَنَا، وَلا يُعْطَى أَحَدٌ بَعْدَنَا، أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَكْرَمُ النَّبِيِّينَ عَلَى اللهِ، وَأَحَبُّ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا أَبُوكِ، وَوَصِيِّي خَيْرُ الأَوْصِيَاءِ وَأَحَبُّهُمُ إِلَى اللهِ، وَهُوَ بَعْلُكِ، وشَهِيدُنا خَيْرُ الشُّهَدَاءِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللهِ، وَهُوَ عَمُّكِ حَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ عَمُّ أَبِيكِ، وَعَمُّ بَعْلِكِ، وَمِنَّا مَنْ لَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلائِكَةِ حَيْثُ يَشَاءُ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِيكِ وَأَخُو بَعْلِكِ، وَمِنَّا سِبْطَا هَذِهِ الأُمَّةِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَهُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَبُوهُمَا وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ خَيْرٌ مِنْهُمَا.

يَا فَاطِمَةُ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، إِنَّ مِنْهُمَا مَهْدِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ، إِذَا صَارَتِ الدُّنْيَا هَرْجَاً وَمَرْجَاً، وَتَظَاهَرَتِ الْفِتَنُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلا كَبِيرَ يَرْحَمُ صَغِيرَاً، وَلا صَغِيرَ يُوَقِّرُ كَبِيرَاً، فَيَبْعَثُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَنْ يَفْتَتِحُ حُصُونَ الضَّلالَةِ، وَقُلُوبَاً غُلْفَاً، يَقُومُ بِالدِّينِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا قُمْتُ بِهِ فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ، وَيَمْلأُ الدُّنْيَا عَدْلَاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْرَاً.

يَا فَاطِمَةُ، لا تَحْزَني وَلا تَبْكِي، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمُ بِكِ وَأَرْأَفُ عَلَيْكِ مِنِّي، وَذَلِكَ لِمَكَانِكِ مِنِّي، ومَوْضِعِكِ مِنْ قَلْبِي، وزَوَّجَكِ اللهُ زَوْجَكِ وَهُوَ أَشْرَفُ أَهْلِ بَيْتِكِ حَسَبَاً، وَأَكْرَمُهُمْ مَنْصِبَاً، وأَرْحَمُهُمْ بِالرَّعِيَّةِ، وَأَعْدَلُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وأَبْصَرُهمْ بِالْقَضِيَّةِ، وَقَدْ سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَكُونِي أَوَّلَ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي».

قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَبْقَ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا بَعْدَهُ إِلا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْمَاً حَتَّى أَلْحَقَهَا اللهُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ المَقْدِسِ وَهُوَ في مَكَّةَ:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لَقَد أَعْطَى اللهُ تعالى سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُوَّةً في بَصَرِهِ، فَكَانَ يَرَى مَا لا يَرَاهُ النَّاظِرُونَ، كَانَ يَرَى الأَبْعَادَ الشَّاسِعَةَ بِقُوَّةٍ وَعِنَايَةٍ رَبَّانِيَّةٍ، من جُمْلَةِ ذَلَكَ، رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ المَقْدِسِ عِنْدَمَا كَذَّبَتْهُ قُرَيْشٌ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ.

روى الشيخان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَا اللهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ».

فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَكَّةَ، عِنْدَ حِجْرِ سَيِّدِنَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقُرَيْشٌ مُجْتَمِعَةٌ عِنْدَهُ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصِفُ لَهُم بَيْتَ المَقْدِسِ بَعْدَ أَنْ جَلَاهُ اللهُ تعالى لَهُ.

رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لَقَدَ أَمَدَّ اللهُ تعالى في بَصَرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَى مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا.

روى الإمام مسلم عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ (قَبَضَهَا وَجَمَعَهَا) فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ (أَيْ: الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ (قَحْطٍ) وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ (أَيْ: مُجْتَمَعَهُمْ وَمَوْضِعَ سُلْطَانِهِمْ وَمُسْتَقَرَّ دَعْوَتِهِمْ).

وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَو اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا ـ أَوْ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا ـ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضَاً، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضَاً».

وروى نعيم بن حماد في الفِتَنِ عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ رَفَعَ لِي الدُّنْيَا، فَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا هُوَ كَائِنٌ فِيهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، كَمَا أَنْظُرُ إلى كَفِّي هذهِ».

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ السَّمِيعُ البَصِيرُ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَمُدَّ عَبْدَهُ في بَصَرِهِ فَيَرَى مَا لا يَرَاهُ النَّاظِرُونَ، فَهُوَ القَادِرُ عل ذَلِكَ، وهذا مَا أَكْرَمَ اللهُ تعالى بِهِ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يَرَى مَا لا يَرَاهُ النَّاظِرُونَ، وَكَانَ يَرَى من وَرَائِهِ كَمَا كَانَ يَرَى من أَمَامِهِ.

روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ واللهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلَا خُشُوعُكُمْ، وَإِنِّي لأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي».

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: «يَا فُلَانُ، أَلَا تُحْسِنُ صَلَاتَكَ، أَلَا يَنْظُرُ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى كَيْفَ يُصَلِّي، فَإِنَّمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ، إِنِّي واللهِ لَأُبْصِرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ».

وروى كَذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي إِمَامُكُمْ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي».

ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلَاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرَاً».

قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ».

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لا غَرَابَةَ في هذهِ الخُصُوصِيَّاتِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ لا يَكُونُ هذا لَهُ وَهُوَ المَحْبُوبُ عِنْدَ اللهِ تعالى القَائِلِ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»؟ رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِحِفظِْ جَارِحَةِ البَصَرِ عَن مَحَارِمِ اللهِ تعالى، وَسَائِرِ جَوَارِحِنَا الظَّاهِرَةِ والبَاطِنَةِ.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 18/ صفر /1437هـ، الموافق: 30/ تشرين الثاني / 2015م