132-نحو أسرة مسلمة: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ»

نحو أسرة مسلمة

132ـ «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ تعالى هَذِهِ الأُمَّةَ بِخَصَائِصَ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ، مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدَاً وَطَهُورَاً، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ» رواه الإمام البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا. وَقَدْ كَانَتِ الأُمَمُ السَّابِقَةُ لَا يُصَلُّونَ إلا في بِيَعِهِم وَصَلَوَاتِهِم وَكَنَائِسِهِم، الأَمَاكِنِ المُعَدَّةِ للعِبَادَةِ، أَمَّا هَذِهِ الأُمَّةُ فَالأَرْضُ كُلُّهَا لَهَا مَسْجِدٌ وَطَهُورٌ، فَهُمْ يُصَلُّونَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ في بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ، لِأَنَّ فِيهَا النُّورَ وَالبَرَكَةَ، قَالَ تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾. وَهَذِهِ البُيُوتُ يُعَمِّرُهَا أَهْلُ الإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾.

هَذِهِ المَسَاجِدُ كُلَّمَا غَدَا إِلَيْهَا العَبْدُ أَو رَاحَ أَعَدَّ اللهُ تعالى لَهُ نُزُلَاً في الجَنَّةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ».

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُوَطِّنُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْـمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، إِلَّا تَبَشْبَشَ اللهُ بِهِ حَتَّى يَخْرُجَ، كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ، إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

«لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا شَكَّ عِمَارَةُ المَسَاجِدِ مَطْلُوبَةٌ مِنَّا شَرْعَاً، وَلَكِنْ عِنْدَمَا كَانَ الإِنْسَانُ مُكَلَّفَاً بِوِقَايَةِ أَهْلِهِ بَعْدَ نَفْسِهِ مِنَ النَّارِ، أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ العَبْدَ أَنْ يَكُونَ لِبَيْتِهِ نَصِيبَاً مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تعالى وَطَاعَتِهِ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَهُ قَبْرَاً، رَحْمَةً بِمَنْ في البَيْتِ، لِأَنَّ البَيْتَ الذي يُذْكَرُ اللهُ تعالى فِيهِ هُوَ بَيْتٌ حَيٌّ، وَبِذَلِكَ تُرْجَى الحَيَاةُ لِسَاكِنِيهِ، وإلا كَانَ البَيْتُ مَيْتَاً، وَمَنْ فِيهِ أَمْوَاتٌ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى، لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ بُيُوتِنَا وَمَنْ فِيهَا، حَثَّنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُحْيِيَ هَذِهِ البُيُوتَ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ؛ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ:

أولاً: صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِيهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ مِنْ أَعْظَمِ القُرُبَاتِ، وَسَبَبَاً مِنْ أَسْبَابِ مُرَافَقَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الجَنَّةِ، وَذَلِكَ للحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ».

فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.

قَالَ: «أَو غَيْرَ ذَلِكَ».

قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.

قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».

وَلِأَنَّ اللهَ تعالى أَمَرَنَا أَنْ نَأْمُرَ أَهْلَنَا بِالصَّلَاةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقَاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾. طَلَبَ مِنَّا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَجْعَلَ مِنْ صَلَاتِنَا  في بُيُوتِنَا حَتَّى نُحْيِيَ هَذِهِ البُيُوتَ بِذِكْرِ اللهِ تعالى، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُحْيِيَ مَنْ فِيهَا، وَذَلِكَ بِالتَّأَسِّي بِنَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورَاً» رواه الإمام مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورَاً» رواه الإمام مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبَاً مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرَاً» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ المَكْتُوبَةَ» رواه الشيخان عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ إِحْيَاءِ البُيُوتِ بِنُورِ الصَّلَاةِ، وَلِطَرْدِ الشَّيْطَانِ مِنْهَا، وَلِكَيْ يَتَأَثَّرَ الأَهْلُ بِصَلَاةِ الرَّجُلِ في بَيْتِهِ، وفي ذَلِكَ صَلَاحٌ لَهُم.

ثانياً: تِلَاوَةُ القُرْآنِ العَظِيمِ فِيهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: البَيْتُ الذي يُقْرَأُ فِيهِ القُرْآنُ العَظِيمُ تَنْفِرُ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ، وَإِذَا نَفَرَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ البَيْتِ بِسِرِّ تِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ، فَإِنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ تَنْزِلُ على أَهْلِ هَذَا البَيْتِ، وفي ذَلِكَ حَيَاةُ البُيُوتِ وَأَهْلِهَا.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ أَعْظَمِ الحِرْزِ وَالحِفْظِ وَالحِيَاطَةِ كَثْرَةُ ذِكْرِ اللهِ تعالى، وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ تِلَاوَةُ القُرْآنِ العَظِيمِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَأَهْلُهُ في مَأْمَنٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ في بَيْتِهِ، وفي ذَلِكَ أَثَرٌ بَلِيغٌ في نُفُوسِ أَهْلِ البَيْتِ.

روى الإمام أحمد والترمذي عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابَاً قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَا تُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَكْثِرُوا مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ في بُيُوتِكُمْ، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُحْيِيَهَا وَيُحْيِيَ مَنْ فِيهَا بِنُورِ القُرْآنِ العَظِيمِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى إِحْيَاءِ بُيُوتِنَا بِذِكْرِ اللهِ تعالى؛ وَاللهِ مَا ضَاعَتِ الأُسَرُ إلا بِسَبَبِ إِهْمَالِ البُيُوتِ، وَعَدَمِ عِمَارَتِهَا بِطَاعَةِ اللهِ تعالى.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَانَ عَبْدُ العَزِيزِ بِنُ أَبِي رَوَّادٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إِذَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يَأْتِي فِرَاشَهُ، فَيَمُرُّ يَدَهُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: إِنَّكَ لَلَيِّنٌ، وَوَاللهِ إِنَّ في الجَنَّةِ لَأَلْيَنَ مِنْكَ؛ وَلَا يَزَالُ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ. وَصَدَقَ فِيهِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدَاً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْـمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفَاً وَطَمَعَاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَهْلُ البَيْتِ يَتَأَثَّرُونَ بِصَاحِبِ البَيْتِ، الزَّوْجَةُ تَتَأَثَّرُ بِزَوْجِهَا، وَالوَلَدُ يَتَأَثَّرُ بِوَالِدِهِ، وَالبِنْتُ تَتَأَثَّرُ بِأُمِّهَا، وَالأُخْتُ تَتَأَثَّرُ بِأَخِيهَا، إِنْ خَيْرَاً فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرَّاً فَشَرٌّ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى صَلَاحَنَا، وَصَلَاحَ أُصُولِنَا وَفُرُوعِنَا. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 22/ شعبان /1437هـ، الموافق: 29/ أيار / 2016م