30-دروس رمضانية 1437هـ:ارحم من قد زال ملكه

.

دروس رمضانية 1437هـ

30ـ ارحم من قد زال ملكه

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ حَيَاةَ القُلُوبِ حَيَاةٌ للأَبْدَانِ، وَمَوْتَ القُلُوبِ مَوْتٌ للأَبْدَانِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْـمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾. قُلُوبُ هَؤُلَاءِ قُلُوبٌ خَاوِيَةٌ، كَأَنَّهَا خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ.

أَخْطَرُ دَاءٍ وَأَعْظَمُهُ الغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، الغَفْلَةُ مَرَضٌ خَطِيرٌ، وَشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ، يَصُدُّ عَنِ الهِدَايَةِ، وَيُعْمِي البَصِيرَةَ، وَيُنْسِي الآخِرَةَ، وَإِذَا اسْتَمَرَّتِ الغَفْلَةُ مُسَيْطِرَةً على القَلْبِ حَتَّى يُفَاجِئَهُ المَوْتُ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ سَيَصْرُخُ وَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَسْمَعُهُ إِنْسَانٌ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

يَا مَنْ أَلْهَتْهُ الدُّنْيَا عَنِ الآخِرَةِ، يَا مَنْ شَغَلَتْهُ الدُّنْيَا عَنِ الآخِرَةِ، يَا مَنْ يَعْمَلُ لِمَا قَبْلَ المَوْتِ، يَا مَنْ يُسَوِّلُ وَيُسَوِّفُ وَهُوَ مُقِيمٌ على المَعْصِيَةِ، هَلْ تَضْمَنُ أَنْ لَا يَأْتِيَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ على مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؟

هَلِ الحَالَةُ التي نَحْنُ عَلَيْهَا نَرْضَاهَا إِذَا جَاءَنَا المَوْتُ، وَانْقَضَتْ أَنْفَاسُ العُمُرِ، وَأَزِفَ الرَّحِيلُ؟

هَلْ نَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ لِمُغَادَرَةِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا التي هِيَ لَيْسَتْ مَقَرَّاً لَنَا؟

هَلْ نَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ لِلانْتِقَالِ إلى عَالَمِ البَرْزَخِ، الذي هُوَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، أَو حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ؟

أَكْيَسُ النَّاسِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرَاً للمَوْتِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: الغَفْلَةُ إِذَا سَيْطَرَتْ على القَلْبِ قَسَا، وَإِذَا قَسَا القَلْبُ نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْهُ، وَإِذَا نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْهُ صَارَ ظَالِمَاً لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَانَ ظَالِمَاً لِنَفْسِهِ فَهُوَ لِغَيْرِهِ أَظْلَمُ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَرَّفَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على أَعْقَلِ النَّاسِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ الإِمَامُ الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَاشِرَ عَشَرَةٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ وَأَحْزَمُ النَّاسِ؟

فَقَالَ: «أَكْثَرَهُمْ ذِكْرَاً لِلْمَوْتِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادَاً لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْـمَوْتِ، أُولَئِكَ هُمُ الْأَكْيَاسُ، ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ».

أَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ عَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ» رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

العَاقِلُ اللَّبِيبُ هُوَ الذي يُكْثِرُ مِنْ ذِكْرِ المَوْتِ، وَيَسْتَعِدُّ للمَوْتِ، وَيَعْمَلُ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا مَهْمَا عَاشَ فِيهَا فَهِيَ قَصِيرَةٌ، وَمَهْمَا عَظُمَتْ فَهِيَ حَقِيرَةٌ، وَلِأَنَّ اللَّيْلَ مَهْمَا طَالَ لَا بُدَّ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ، وَلِأَنَّ العُمُرَ مَهْمَا طَالَ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ القَبْرِ.

العَاقِلُ اللَّبِيبُ هُوَ الحَرِيصُ على نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقُولَ يَوْمَ القِيَامَةِ: ﴿رَبَّنَا أَبْـصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحَاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾. حَرِيصٌ على نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقُولَ: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾. حَرِيصٌ على نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقُولَ: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلَاً﴾. حَرِيصٌ على نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقُولَ: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾. حَرِيصٌ على نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقُولَ: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾.

ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ مُلْكُهُ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: الدُّنْيَا خَدَّاعَةٌ مَكَّارَةٌ، إِذَا حَلَتْ أَوْحَلَتْ، وَإِذَا جَلَتْ أَوْجَلَتْ، وَإِذَا كَسَتْ أَوْكَسَتْ، وَإِذَا دَنَتْ أَوْدَنَتْ؛ فَكَمْ مِنْ مَلِكٍ رُفِعَتْ لَهُ عَلَامَاتٌ، فَلَمَّا عَلَا مَاتَ.

النَّفْسُ تَجْزَعُ وَتَخَافُ مِنَ الفَقْرِ، وَالفَقْرُ خَيْرٌ لَهَا مِنْ غِنَىً يُطْغِيهَا ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾. وَالغِنَى هُوَ غِنَى النَّفْسِ، فَإِنْ أَبَتِ النَّفْسُ غِنَى النَّفْسِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا في الأَرْضِ لَا يَكْفِيهَا، روى الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثَاً، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ».

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: كُلُّنَا يَعْلَمُ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَتْبَعُ المَيْتَ ثَلاَثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ».

فَيَا مَنْ شَغَلَتْكَ الدُّنْيَا عَنِ الآخِرَةِ، وَشَغَلَكَ مَالُكَ عَنِ اللهِ تعالى، وَشَغَلَتْكَ تِجَارَتُكَ عَنِ السُّجُودِ للهِ تعالى، وَشَغَلَتْكَ أَهْوَاؤُكَ عَنْ مُتَابَعَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَوْفَ تَنْدَمُ عِنْدَمَا تُوضَعُ في قَبْرِكَ لِوَحْدِكَ، وَلَا يَكُنْ مَعَكَ إلا عَمَلُكَ، وَتَيَقَّنْتَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾. وَمِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تَعْرِفُونَ هَارُونَ الرَّشِيدَ، هَارُونُ الرَّشِيدُ الذي كَانَ يَقُولُ للسَّحَابَةِ: أَمْطِرِي أَنَّى شِئْتِ؛ فَإِنَّ خَرَاجَكِ سَوْفَ يَأْتِينِي بِإِذْنِ اللهِ.

نَامَ هَارُونُ الرَّشِيدُ على فِرَاشِ المَوْتِ، فَنَظَرَ إلى جَاهِهِ وَمَالِهِ، ثمَّ قَالَ: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾. وَقَالَ لِإِخْوَانِهِ: أُرِيدُ أَنْ أَرَى قَبْرِيَ الذي سَأُدْفَنُ فِيهِ.

فَحَمَلُوا هَارُونَ إلى قَبْرِهِ؛ فَنَظَرَ هَارُونُ إلى القَبْرِ وَبَكَى، وَرَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ وَقَالَ: يَا مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ مُلْكُهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَّقِ اللهَ تعالى فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِنَا، وَلْنَصْطَلِحْ مَعَ اللهِ تعالى، وإلا سَنَنْدَمُ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ.

لَقِيَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَجُلَاً، فَقَالَ لَهُ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ؟

قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً.

قَالَ: فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً تَسِيرُ إِلَى رَبِّكَ، تُوشِكُ أَنْ تَبْلُغَ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

قَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ: تَعْلَمُ مَا تَقُولُ؟

قَالَ الرَّجُلُ: قُلْتُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

قَالَ الْفُضَيْلُ: تَعْلَمُ مَا تَفْسِيرُهُ؟

قَالَ الرَّجُلُ: فَسِّرْهُ لَنَا يَا أَبَا عَلِيٍّ.

قَالَ: قَوْلُكَ: إِنَّا للهِ، تَقُولُ: أَنَا للهِ عَبْدٌ، وَأَنَا إِلَى اللهِ رَاجِعٌ؛ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَمَنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَسْؤُولٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ، فَلْيُعِدَّ للسُّؤَالَ جَوَابَاً.

فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا الْحِيلَةُ؟

قَالَ: يَسِيرَةٌ.

قَالَ: مَا هِيَ؟

قَالَ: تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ، يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ، فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ.

يَا رَبُّ أَخْرِجْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

              الاثنين: 15/ رمضان /1437هـ، الموافق: 20/ حزيران / 2016م