3ـ مشكلات وحلول: دفع الإشكالات حول مشروعية الاحتفال بمولد سيد الكائنات

 

سؤال: قَرَأْتُ على الانْتَرْنِت مَوْضُوعَاً مَطْرُوحَاً، حَيْثُ إِنَّ صَاحِبَهُ يَدَّعِي عَدَمَ مَـشْرُوعِيَّةِ الاحْتِفَالِ بِعِيدِ المَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، حَيْثُ يُرِيدُ عِدَّةَ إِجَابَاتٍ عَنْ أَسْئِلَتِهِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَرْغَبُ بِإِعْطَائِي بَعْضَ الإِجَابَاتِ للرَّدِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَفْكَارَهُ تُؤَثِّرُ على قَلِيلِي العِلْمِ، وَمِنْهَا:

1ـ لِمَ لَمْ يَحْتَفِلِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ بِمَوْلِدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عِلْمَاً أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُمْ مَانِعٌ وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ، وَأَكْمَلُ حُبَّاً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمُتَابَعَةً لِشَرْعِهِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ؟

2ـ روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقَّاً عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ». لِمَ لَمْ يَدُلُّنَا عَلَى هَذَا الخَيْرِ؟ عِلْمَاً أَنَّهُ مَا تَرَكَ شَيْئَاً يُقَرِّبُنَا إلى اللهِ إِلَّا وَدَلَّنَا عَلَيْهِ؟

3ـ مَا مَعْنَى الحَدِيثِ، أَوْ مَا تَفْسِيرُهُ: «لَا تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

4ـ لِمَ لَا نَحْتَفِلْ بِبِعْثَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ أَلَيْسَتِ البِعْثَةُ أَوْلَى بِالاحْتِفَالِ؟

5ـ أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ المَوْلِدَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ، إِذَاً أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ مِثَالَاً فَقَطْ لَا أَكْثَرَ عَنِ البِدْعَةِ السَّيِّئَةِ.

6ـ هَلْ المَوْلِدُ قُرْبَةٌ إلى اللهِ، يَعْنِي هَلْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الإِنْسَانُ وَيَنُوبُهُ حَسَنَاتٌ؟

وَخَتَمَ رِسَالَتَهُ بِقَوْلِ: وَإِنْ لَمْ أَجِدْ مَنْ يُجِيبُ فَهَذَا سَيَكُونُ حُجَّةً على بُطْلَانِ الاحْتِفَالِ، وَضَعْفِ أَصْحَابِ الاحْتِفَالِ.

فَمَا رَأْيُكُمْ وَلَكُمْ جَزِيلُ الشُّكْرِ.

الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهُ وَبَرَكَاتُهُ، أَمَّا بَعْدُ:

فَالجَوَابُ على السُّؤَالِ الأَوَّلِ:

نَحْنُ لَا نَشُكُّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ الكِرَامَ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِسُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْمَلَ حُبَّاً لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ، بَلْ وَأَكْمَلَ اتِّبَاعَاً للشَّرْعِ الشَّرِيفِ.

لَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَفْعَلُوا أَمْرَاً مِنَ الأُمُورِ المُبَاحَةِ، صَارَ هَذَا الأَمْرُ المُبَاحُ حَرَامَاً، وَمَنِ الذي يَجْتَرِئُ على القَوْلِ بِتَحْرِيمِ المُبَاحِ إِلَّا الجَاهِلُ؟

الحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ الشَّرْعُ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، لِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾. وَمَعْنَى الآيَةِ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لَمْ يَقُلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: مَا تَرَكَهُ فَاتْرُكُوهُ؛ فَالطَّاعَةُ في امْتِثَالِ الأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ للإمام مسلم: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ».

وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ» أَيْ: اتْرُكُوا السُّؤَالَ عَمَّا لَمْ آمُرُكُمْ بِهِ أَو أَنْهَكُمْ عَنْهُ، لِأَّنَهُ لَوِ اقْتَضَى الأَمْرُ أَنْ يَأْمُرَ أَمَرَ، أَوْ أَنْ يَنْهَى نَهَى، لِكَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغَاً عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَالتَّرْكُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَا يَعْنِي التَّحْرِيمَ، بَلْ التَّرْكُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْنِي التَّحْرِيمَ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ أُمُورَاً وَلَمْ يَنْهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَمَا فَهِمَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ يَعْنِي التَّحْرِيمَ، مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: تَرْكُ هَدْمِ الكَعْبَةِ، وَإِعَادَةِ بِنَائِهَا على قَوَاعِدِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَرْكِ إِنْفَاقِ كَنْزِهَا في سَبِيلِ اللِه عَزَّ وَجَلَّ، لَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، بَلْ لِكَوْنِ القَوْمِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، روى الإمام مسلم عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ ـ أَوْ قَالَ: بِكُفْرٍ ـ لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ»

مِنْ ذَلِكَ تَرْكُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَكْلَ الضَّبِّ، لَا لِأَنَّهُ حَرَامٌ، بَلْ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَشْتَهِ نَفْسُهُ الكَرِيمَةُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِ؛ وَسَأَلَهُ سَيِّدُنَا خَالِدٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ الضَّبِّ، أَحَرَامٌ الضَّبَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟

«لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ».

قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيَّ؛ فَلَمْ يَنْهَنِي. رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَمِنْ ذَلِكَ تَرْكُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ في جَمَاعَةٍ في شَهْرِ رَمَضَانَ، لَا لِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ جَمَاعَةً، بَلْ خَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْنَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

فَأَيْنَ وَجْهُ التَّحْرِيمِ على مَشْرُوعِيَّةِ المَوْلِدِ مِنْ خِلَالِ هَذَا القِيَاسِ المَرْدُودِ عَلَيْهِ؟

وَأَخِيرَاً أَقُولُ: رَحِمَهُ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

التَّرْكُ لَيْسَ بِـحُجَّةٍ في شَرْعِـنَا    ***   لَا يَـقْـتَضِـي مَـنْـعَاً وَلَا إِيجَـابَـاً

فَمَنِ ابْتَغَى حَظَرَاً بِتَرْكِ نَـبِـيِّنَا    ***      وَرَآهُ حُــكْمَاً صَــادِقَـاً وَصَوَابَاً

قَدْ ضَلَّ عَنْ نَهْجِ الأَدِلَّةِ كُـلِّهَا    ***   بَلْ أَخْطَأَ الحُكْمَ الصَّحِيحَ وَخَابَا

لَا حَظْرَ يُمْكِنُ إِلَّا إِنْ نُهِيٌ أَتَى    ***   مُــتَــوَعِّـدَاً لِمُـخَـالِفِـيهِ عَـذَابَاً

أَوْ ذَمِّ فِـعْلٍ مُـؤَذِّنٍ بِـعُـقُـوبَةٍ    ***   أَو لَـفْـظِ تَحْـرِيـمٍ يُـوَاكِبُ عَابَا

أَمَّا الجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي:

فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقَّاً عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ». أَيْنَ وَجْهُ الاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ على أَنَّ تَرْكَ أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ يُفِيدُ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَنَا في الجَوَابِ السَّابِقِ أَنَّ التَّرْكَ لَا يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، أَمَّا تَرْكُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ في جَمَاعَةٍ، وَجَمَعُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النَّاسَ في صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ على إِمَامٍ وَاحِدٍ هُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَلَيْسَ هَذَا الجَمْعُ فِيهِ خَيْرٌ؟ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا دَلَّ أُمَّتَهُ على ذَلِكَ.

أَلَيْسَ جَمْعُ القُرْآنِ في مُصْحَفٍ وَاحِدٍ خَيْرَاً، وَهَلْ أَمَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ؟ وَمَنِ الذي جَمَعَ القُرْآنَ في مُصْحَفٍ وَاحِدٍ؟ أَلَيْسَ الصِّدِّيقُ فَعَلَ ذَلِكَ؟ وَقِسْ بَعْدَ ذَلِكَ الأُمُورَ الكَثِيرَةَ التي فِيهَا خَيْرٌ، وَرَآهَا المُسْلِمُونَ حَسَنَةً فَفَعَلُوهَا، وَهَذَا لَيْسَ اسْتِدْرَاكَاً على الشَّرْعِ مَعَاذَ اللهِ، بَلْ هُوَ عَيْنُ الالْتِزَامِ بِالقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ التي وَرَدَتْ في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، روى الإمام مسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ».

فَأَيْنَ وَجْهُ التَّحْرِيمِ في مَشْرُوعِيَّةِ المَوْلِدِ مِنْ خِلَالِ هَذَا الحَدِيثِ، وَالحَالُ كَمَا ذَكَرْنَا؟

أَمَّا سُؤَالُكَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ». فَأَيْنَ وَجْهُ الاسْتِدْلَالِ بِهِ على عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ المَوْلِدِ؟ هَلْ سَمِعْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أُمَّةٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُغَالِي كَمَا غَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، الذينَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَعِيسَى ابْنُ اللهِ؟ هَلْ يُوجَدُ أَحَدٌ في هَذِهِ الأُمَّةِ لَا يَقُولُ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَيُكَرِّرُ هَذِهِ الكَلِمَةَ مَرَّاتٍ عِدَّةً في كُلِّ يَوْمٍ، إِذْ يَقُولُ في صَلَاتِهِ وَخَارِجَ صَلَاتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَمَّا سُؤَالُكَ الرَّابِعُ: لِمَ لَا نَحْتَفِلْ بِبِعْثَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ أَوْلَى بِالاحْتِفَالِ؟ أَقُولُ: لَوِ احْتَفَلَتِ الأُمَّةُ بِيَوْمِ البِعْثَةِ لَوُجِدَ كَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: لِمَ تَحْتَفِلُونَ بِيَوْمِ البِعْثَةِ وَلَمْ تَحْتَفِلُوا بِيَوْمِ الهِجْرَةِ؟ وَهَكَذَا.

يَا أَخِي، الاحْتِفَالُ بِيَوْمِ مَوْلِدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ تَذْكِيرٌ للأُمَّةِ بِيَوْمِ مَوْلِدِهِ، وَبِيَوْمِ بِعْثَتِهِ، وَبِيَوْمِ هِجْرَتِهِ، وَبِأَيَّامِ غَزَوَاتِهِ، وَتَذْكِيرٌ بِأَخْلَاقِهِ وَسِيرَتِهِ وَشَمائِلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَمَّا الجَوَابُ عَنْ سُؤَالِكِ الخَامِسِ:

تُرِيدُ مَعْرِفَةَ مِثَالٍ وَاحِدٍ عَنِ البِدْعَةِ السَّيِّئَةِ، أَقُولُ لَكَ يَا أَخِي: خُذْ أَمْثِلَةً لَا مِثَالَاً وَاحِدَاً، وَلَكِنْ قَبْلَ أَنْ أُعْطِيَكَ الأَمْثِلَةَ، هَلْ أَنْتَ على اسْتِعْدَادٍ أَنْ تَقْبَلَ أَقْوَالَ الأَئِمَّةِ الفُقَهَاءِ الذينَ حَمَلُوا لَنَا هَذَا الدِّينَ، وَأَدَّوْهُ لَنَا بِالأَمَانَةِ التَّامَّةِ دُونَ تَعَصُّبٍ لِفِكْرَةٍ مَا؟ إِذْ قَسَّمُوا البِدْعَةَ إلى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ.

الآنَ خُذِ الأَمْثِلَةَ على البِدْعَةِ السَّيِّئَةِ، وَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ تَقْبَلَ أَقْوَالَ الأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ أَو لَا تَقْبَلَ:

أولاً: بِدَعٌ سَيِّئَةٌ في العَقِيدَةِ مُحَرَّمَةٌ، قَدْ تَصِلُ إلى دَرَجَةِ كُفْرِ صَاحِبِهَا: كَبِدَعِ القَدَرِيَّةِ، وَالجَبْرِيَّةِ، وَالمُرجِئَةِ، وَالخَوَارِجِ، وَكَبِدَعِ الجَاهِلِيِّينَ التي نَبَّهَ القُرْآنُ الكَرِيمُ عَلَيْهَا في قَوْلِهِ تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ﴾. وفي قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ﴾.

ثانياً: بِدَعٌ سَيِّئَةٌ في العِبَادَاتِ، مِنْهَا مُحَرَّمٌ وَمِنْهَا مَكْرُوهٌ:

1ـ أَمَّا المُحَرَّمُ مِنْهَا: بِدْعَةُ التَّبَتُّلِ وَالصِّيَامِ قَائِمَاً في الشَّمْسِ، وَالخِصَاءِ لِقَطْعِ الشَّهْوَةِ في الجِمَاعِ وَالتَفَرُّغِ للعِبَادَةِ، لِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَدِيثِ الرَّهْطِ الذينَ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.

قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدَاً.

وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ.

وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدَاً.

فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»

2ـ أَمَّا المَكْرُوهُ مِنْهَا: الاجْتِمَاعُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ للدُّعَاءِ لِغَيْرِ الحُجَّاجِ فِيهَا، وَذِكْرُ السَّلَاطِينِ في خُطْبَةِ الجُمُعَةِ للتَّعْظِيمِ، أَمَّا للدُّعَاءِ فَجَائِزٌ، وَمِنْهَا زَخْرَفَةُ المَسَاجِدِ.

ثالثاً: أَمَّا البِدْعَةُ في العَادَاتِ: فَمِنْهَا المَكْرُوهُ: كَالإِسْرَافِ في الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَمِنْهَا المُبَاحُ كَالتَّوَسُّعِ في اللَّذِيذِ مِنَ المَآكِلِ وَالمَشَارِبِ ......

أَمَّا الجَوَابُ عَنْ سُؤَالِكِ الأَخِيرِ، هَلِ المَوْلِدُ قُرْبَةٌ إلى اللهِ تعالى، وَيُؤْجَرُ الإِنْسَانُ عَلَيْهِ؟

فَالجَوَابُ يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي يَقُولُ فِيهِ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَعَلَى النِّيَّةِ يُؤْجَرُ الإِنْسَانُ، وَالنِّيَّةُ مَحَلُّهَا القَلْبُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ تعالى.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ بِأَنَّ العَبْدَ يُؤْجَرُ على مَدْحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيُؤْجَرُ على الصَّلَاةِ على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيُؤْجَرُ على سَمَاعِ سِيرَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيُؤْجَرُ على الاجْتِمَاعِ في بُيُوتِ اللهِ لِتِلَاوَةِ القُرْآنِ وَمُدَارَسَتِهِ.

فَإِذَا اجْتَمَعَ المُسْلِمُونَ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ تعالى، وَجَعَلُوا مَوْلِدَاً للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ بَعِيدَاً عَنِ المُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَانَ مُنْضَبِطَاً بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُمْ يُؤْجَرُونَ على ذَلِكَ بِنِيَّاتِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا بِوُجُوبِ المَوْلِدِ وَلَا بِسُنِّيَّتِهِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُبَاحٌ، يُؤْجَرُ فَاعِلُهُ بِنِيَّتِهِ، وَلَا وِزْرَ على مَنْ تَرَكَهُ. هذا، والله تعالى أعلم.