122-نحو أسرة مسلمة: عقد الزواج هو الحافظ لكرامة المرأة (2)

.

نحو أسرة مسلمة

122ـ عقد الزواج هو الحافظ لكرامة المرأة (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ في شَرْعِنَا الحَنِيفِ، عَقْدٌ لَهُ أَهَمِّيَّتُهُ الخَاصَّةُ،  وَقَدَاسَةٌ تُمَيِّزُهُ عَن سَائِرِ العُقُودِ، وَقَد سَمَّاهُ اللهُ تعالى في القُرْآنِ العَظِيمِ مِيثَاقَاً غَلِيظَاً، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارَاً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئَاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانَاً وَإِثْمَاً مُبِينَاً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقَاً غَلِيظَاً﴾. يَعْنِي عَهْدَاً مَتِينَاً وَقَوِيَّاً.

وَهَذَا التَّعْبِيرُ هُوَ نَفْسُ التَّعْبِيرِ الذي أَطْلَقَهُ اللهُ تعالى على النُّبُوَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقَاً غَلِيظَاً﴾. فَأَطْلَقَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ على عَقْدِ النِّكَاحِ، أَو الزَّوَاجِ، أَو هَذَا الرِّبَاطِ المُقَدَّسِ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ ﴿مِيثَاقَاً غَلِيظَاً﴾. لِتُوحِيَ بِأَهَمِّيَّةِ وَقُدْسِيَّةِ هَذَا العَقْدِ، وَأَنَّهُ عَقْدٌ مُتَمَيِّزٌ عَن سَائِرِ العُقُودِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ بَعْضُ العُلَمَاءِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقَاً غَلِيظَاً﴾. المِيثَاقُ الغَلِيظُ هُوَ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَو تَـسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ؛ وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ إِذَا زَوَّجُوا بَنَاتِهِم اشْتَرَطُوا على الرَّجُلِ، وَقَالُوا: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَلْنَكُنْ على حَذَرٍ من الإِخْلالِ بِهَذَا العَقْدِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾. فَمَنْ نَقَضَ هَذَا العَقْدَ، وَلَمْ يَفِ بِهِ، فَقَد تَشَبَّهَ بِأَهْلِ النِّفَاقِ، وَصَنَعَ صَنِيعَ أَهْلِ النَّارِ والعِيَاذُ باللهِ تعالى.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: من خِلالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقَاً غَلِيظَاً﴾. تَعْرِفُ المَرْأَةُ مَكَانَتَهَا في دِينِ اللهِ تعالى، وَأَنَّ اللهَ تعالى كَرَّمَهَا أَيَّمَا تَكْرِيمٍ، بَلْ لَقَد كَرَّمَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَرَّمَ الأَبَ، وَأَيَّ إِنْسَانٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانَاً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهَاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهَاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرَاً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحَاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ﴾.

من هَذَا المُنْطَلَقِ، أَضْفَى الإِسْلامُ الهَيْبَةَ على هَذَا العَقْدِ، وَأَعْطَاهُ قَدَاسَةً عَظِيمَةً، ومن أَهَمِّهَا أَنْ جَعَلَ للمَرْأَةِ وَلِيَّاً عَنْهَا في عَقْدِ زَوَاجِهَا، لِيَكُونَ سَنَدَاً لَهَا وَمُعِينَاً، وَلِذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ لا يَصِحُّ عَقْدُ الزَّوَاجِ إلا بِوُجُودِ وَلِيٍّ عَن المَرْأَةِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» رواه الإمام أحمد والحاكم عَن أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

الإِشْهَادُ على عَقْدِ النِّكَاحِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: من شُرُوطِ هَذَا العَقْدِ المُقَدَّسِ الخَطِيرِ العَظِيمِ، الإِشْهَادُ عَلَيْهِ، ولا يُقَاسُ على غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ هُنَاكَ من العُقُودِ التي يُجِيزُهَا الشَّرْعُ بِدُونِ شُهُودٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَوْثِيقُ عَقْدِ الزَّوَاجِ بالإِشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ العَقْدِ وَاجِبٌ شَرْعَاً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» رواه البيهقي والطَّبَرَانِيُّ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

وَقَالَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ: لا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ إلا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ على الأَقَلِّ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِ المُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الوَلَدُ، فَاشْتُرِطَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ لِئَلَّا يَجْحَدَهُ الأَبُ فَيْضِيعَ نَسَبُهُ، وَلِأَنَّ الحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلى دَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا عَن الزَّوْجَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ والدُّخُولِ، ولا تَنْدَفِعُ إلا بِالشُّهُودِ، لِظُهُورِ النِّكَاحِ، وَاشْتِهَارِهِ بِقَوْلِ الشُّهُودِ.

وَكَذَلِكَ قَالُوا: بِأَنَّ العَقْدَ لا يَصِحُّ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، ولا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، ولا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ في عَقْدِ الزَّوَاجِ أَنَّهُ لا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ، ولا في الطَّلاقِ، ولا في الحُدُودِ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ قَالُوا: بِأَنَّ العَقْدَ يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ، وفي رِوَايَةٍ عَن الإِمَامِ أَحْمَدَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْألُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: عَقْدُ الزَّوَاجِ عَقْدٌ مُقَدَّسٌ في شَرْعِنَا العَظِيمِ، وَلِذَا اشْتُرِطَ لَهُ وُجُودُ وَلِيٍّ عَن المَرْأَةِ، كَمَا اشْتُرِطِ لَهُ الشُّهُودُ، بَلْ بَعْضُ الفُقَهَاءِ اشْتَرَطُوا لَهُ الإِشْهَارَ.

فَكُلُّ عَقْدٍ بِدُونِ وَلِيٍّ بَاطِلٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ، وَكُلُّ عَقْدٍ بِدُونِ شُهُودٍ بَاطِلٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ» رواه الإمام أحمد والحاكم عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيِّ عَن هَبَّارِ بْنِ الأَسْوَدِ: أَنَّهُ زَوَّجَ ابْنَةً لَهُ، وَكَانَ عِنْدَهُم كَبَرٌ، وَغَرَابِيلُ. (الْكَبَرُ: الطَّبْلُ الْكَبِيرُ، وَالْغَرَابِيلُ: الصُّنُوجُ)

فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَ الصَّوْتَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟».

فَقِيلَ: زَوَّجَ هَبَّارٌ ابْنَتَهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيدُوا النِّكَاحَ، أَشِيدُوا النِّكَاحَ، هَذَا النِّكَاحُ لا السِّفَاحُ». أَيْ: أَعْلِنُوهُ وَأَظْهِرُوهُ ولا تُسِرُّوهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَم من فَتَاةٍ نَدِمَتْ، وَبَكَتْ عِوَضَاً عَن الدَّمْعِ الدَّمَ، عِنْدَمَا خَدَعَهَا بَعْضُ الشَّبَابِ، فَتَزَوَّجَتْ بِدُونِ وَلِيِّ أَمْرٍ، والأَسْوَأُ حَالَاً مِنْهَا مَنْ تَزَوَّجَتْ بِدُونِ شُهُودٍ، وَقَالَ لَهَا صَدِيقُهَا: يَكْفِي اللهُ هُوَ الشَّاهِدُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَتَجْدُرُ الإِشَارَةُ هُنَا إلى أَنَّهُ يَنْبَغِي على وَلِيِّ أَمْرِ الفَتَاةِ أَنْ يُوَثِّقَ عَقْدَ زَوَاجِ ابْنَتِهِ في المَحَاكِمِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِضَمَانِ حُقُوقِهَا المَادِّيَّةِ، وَلِضَمَانِ نَسَبِ الوَلَدِ؛ فَكَمْ من رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِدُونِ تَوْثِيقِ العَقْدِ في المَحَاكِمِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنْجَبَ من زَوْجَتِهِ، ثمَّ أَنْكَرَ البُنُوَّةَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: النِّكَاحُ الطَّيِّبُ الذي لا غُبَارَ عَلَيْهِ، والذي يَضْمَنُ حُقُوقَ المَرْأَةِ، هُوَ العَقْدُ الذي يَتِمُّ بِوَلِيٍّ عَن الزَّوْجَةِ، وَبِوُجُودِ الشُّهُودِ والإِشْهَارِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْـمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ» رواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا.

لِذَا كُونُوا على حَذَرٍ من نِكَاحِ السِّرِّ، فَكَم من رَجُلٍ تَزَوَّجَ وَاشْتَرَطَ على زَوْجَتِهِ عَدَمَ الإِشْهَارِ، أَو المَرْأَةُ اشْتَرَطَتْ عَلى الزَّوْجِ عَدَمَ الإِشْهَارِ، ثمَّ نَدِمَتْ يَوْمَ لا يَنْفَعُهَا النَّدَمُ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرُدَّنَا إلى دِينِهِ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 11/ جمادى الآخرة /1437هـ، الموافق: 20/ آذار / 2016م