113ـ كلمة شهر رجب 1437: خطورة طلب الشرف والرفعة في الدنيا

.

113ـ كلمة شهر رجب 1437: خطورة طلب الشرف والرفعة في الدنيا

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: قَالَ اللهُ تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَامَاً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. وَقَالَ تعالى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَوْ رَاجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ، لَوَجَدَ في نَفْسِهِ مَيْلَاً قَوِيَّاً، وَحِرْصَاً شَدِيدَاً يَدْفَعُهُ إلى طَلَبِ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ، وَعُلُوِّ المَنْزِلَةِ بَيْنَ النَّاسِ ـ إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى ـ وَمَنْ كَانَ حَرِيصَاً على ذَلِكَ فَقَد أَفْسَدَ دِينَهُ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، روى الترمذي عَن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْـمَرْءِ عَلَى الْـمَالِ، وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ».

خُطُورَةُ طَلَبِ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ في الدُّنْيَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: طَلَبُ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ في الدُّنْيَا خَطِيرٌ جِدَّاً، وَتَشْتَدُّ خُطُورَتُهُ إِذَا حَرَصَ عَلَيْهِ مِنْ خِلَالِ طَرِيقَيْنِ:

الطَّرِيقُ الأَوَّلُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الطَّرِيقُ الأَوَّلُ هُوَ أَنْ يَطْلُبَ الشَّرَفَ وَالرِّفْعَةَ في الدُّنْيَا من خِلَالِ الوِلَايَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ وَالمَالِ، وَهَذَا خَطِيرٌ جِدَّاً، لِأَنَّهُ في الغَالِبِ يَمْنَعُ عَنْ صَاحِبِهِ خَيْرَ الآخِرَةِ وَشَرَفَهَا وَكَرَامَتَهَا، قَالَ تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادَاً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ كَانَ حَرِيصَاً على ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُوكَلُ إلى نَفْسِهِ، وَمَنْ وَكَلَهُ اللهُ تعالى إلى نَفْسِهِ فَقَد هَلَكَ، روى الشيخان عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا». فَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ حَرِيصَاً عَلَيْهَا ثمَّ عَدَلَ فِيهَا، بَلْ على العَكْسِ من ذَلِكَ تَمَامَاً، فَإِنَّهُ يَقَعُ في الظُّلْمِ الذي هُوَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى وَكَلَهُ إلى نَفْسِهِ؛ وَقَد كَانَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» رواه الإمام أحمد وأبو داود عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وفي رِوَايَةٍ: «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَـكِلْنِي إِلَى نَـفْسِي، تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ، وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدَاً تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ» رواه الإمام أحمد عَن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: من هَذَا المُنْطَلَقِ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لا يُوَلِّي أَحَدَاً طَلَبَ الوِلَايَةَ، روى الشيخان ـ واللفظ لمسلم ـ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي؛ فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ.

فَقَالَ: «إِنَّا واللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدَاً سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدَاً حَرَصَ عَلَيْهِ».

طَلَبُ الوِلَايَةِ في الغَالِبِ يُوَلِّدُ في نَفْسِ طَالِبِهَا عُلُوَّ المَنْزِلَةِ، وَالتَّعَاظُمَ على خَلْقِ اللهِ تعالى، وَإِظْهَارَ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَافْتِقَارِهِم إِلَيْهِ، وَذُلِّهِم في طَلَبِ حَوَائِجِهِم؛ وَبِذَلِكَ خَسَارَةُ الآخِرَةِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ».

الطَّرِيقُ الثَّانِي:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي في طَلَبِ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ في الدُّنْيَا فَهُوَ من خِلَالِ طَلَبِ العِلْمِ، وَهَذَا أَفْحَشُ وَأَقْبَحُ من الطَّرِيقِ الأَوَّلِ، وَفَسَادُهُ أَشَدُّ وَأَخْطَرُ.

روى الإمام أحمد وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «منْ تَعلَّمَ عِلمَاً مِمَّا يُبتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لا يَتَعلَّمُهُ إلا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضَاً مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يجِدْ عَرْفَ الجنَّةِ يوْمَ القِيَامَةِ» (يَعْنِي: رِيحَهَا).

وَمِنْ خِلَالِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابَاً يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ تعالى بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى آتَاهُ العِلْمَ لِيَنَالَ بِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَأَرْفَعَ المَقَامَاتِ؛ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ، فَاسْتَعْمَلَهُ في أَخَسِّ الأُمُورِ وَأَحْقَرِهَا.

كَتَبَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ إلى مَكْحُولٍ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّكَ أَصَبْتَ بِظَاهِرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النَّاسِ شَرَفَاً وَمَنْزِلَةً، فَاطْلُبْ بِبَاطِنِ عِلْمِكَ عِنْدَ اللِه مَنْزِلَةً وَزُلْفَى، وَاعْلَمْ أَنَّ إِحْدَى المَنْزِلَتَيْنِ تَمْنَعُ من الأُخْرَى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: السَّعِيدُ مَنْ أَرَادَ اللهَ تعالى وَالدَّارَ الآخِرَةَ، السَّعِيدُ مَنْ كَانَ مِنْ طُلَّابِ الآخِرَةِ، السَّعِيدُ مَنْ كَانَ حَرِيصَاً على نَيْلِ شَرَفِ الآخِرَةِ، روى الحاكم عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، شَرَفُ المُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ.

وَمَنْ طَلَبَ شَرَفَ الآخِرَةِ رَزَقَهُ اللهُ تعالى شَرَفَ الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ صَاحِبُهُ، وَلَمْ يَطْلُبْهُ؛ أَمَّا مَنْ طَلَبَ شَرَفَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ شَرَفَ الدُّنْيَا لا يُجَامِعُ شَرَفَ الآخِرَةِ، ولا يَجْتَمِعُ مَعَهُ، وَالسَّعِيدُ مَنْ آثَرَ البَاقِي على الفَانِي، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً﴾.

اللَّهُمَّ أَخْرِجْ من قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا، وَاجْعَلِ الآخِرَةَ هَمَّنَا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 1/ رجب /1437هـ، الموافق: 8/نيسان / 2016م