125-نحو أسرة مسلمة:«كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْـجَبَلِ»

نحو أسرة مسلمة

125ـ «كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْـجَبَلِ»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: المَهْرُ في الزَّوَاجِ وَسِيلَةٌ، وَلَيْسَ بِغَايَةٍ، فَمَنْ نَظَرَ إلى المَهْرِ بِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ رَضِيَ بِاليَسِيرِ، وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إِلَيْه بِأَنَّهُ غَايَةٌ غَالَى فِيهِ كَثِيرَاً، وَكَانَ في ذَلِكَ مُخَالِفَاً لِهَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ سَبَبَاً في ضَيَاعِ كَثِيرٍ من الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ، وَكَانَ بَعِيدَاً عَنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَد تَزَوَّجَ سَيِّدُنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ على وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.

روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْـمَدِينَةَ، فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنَىً؛ فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَأُزَوِّجُكَ.

قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ؛ فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطَاً (هُوَ جُبْنُ اللَّبَنِ) وَسَمْنَاً.

فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ، فَمَكَثْنَا يَسِيرَاً، أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، فَجَاءَ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ (أَثَرٌ من طِيبٍ أَو زَعْفَرَانٍ لَهُ لَوْنٌ).

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَهْيَمْ؟» (أَيْ: مَا شَأْنُكَ؟)

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ.

قَالَ: «مَا سُقْتَ إِلَيْهَا؟».

قَالَ: نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.

قَالَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».

وروى أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا،أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ مِلْءَ كَفَّيْهِ سَوِيقَاً (طَعَامَاً يُصْنَعُ من دَقِيقِ القَمْحِ أَو الشَّعِيرِ بِخَلْطِهِ بِالسَّمْنِ وَالعَسَلِ) أَوْ تَمْرَاً فَقَدِ اسْتَحَلَّ».

«كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْـجَبَلِ»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَد تَفَشَّتْ في مُجْتَمَعِنَا اليَوْمَ عَادَةٌ شَنِيعَةٌ، خَرَبَتْ بُيُوتَاتِ البَنَاتِ وَالخُطَّابِ، وَلَيْسَ فِيهَا نَفْعٌ لِأَحَدٍ البَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ التَّفَاخُرُ وَالتَّكَاثُرُ، وَالتَّبْذِيرُ وَالتَّرَفُ، وَالطَّمَعُ وَالجَشَعُ، حِينَمَا لا يُزَوِّجُ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ إلا بِالمَالِ الوَافِرِ، وَقَد يُكْرِهُ البَعْضُ ابْنَتَهُ على الزَّوَاجِ من غَيْرِ الكُفْءِ إِذَا كَانَ مَلِيئَاً يُفْرِي المَالَ فَرْيَاً، وَبِذَلِكَ تَكُونُ العُنُوسَةُ، وَتُصْبِحُ الفَتَاةُ عُرْضَةً للفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، فَيَقَعُونَ فِيمَا حَذَّرَ اللهُ تعالى مِنْهُ ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنَاً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا يَصِلُ المُجْتَمَعُ المُسْلِمُ إلى دَرَجَةِ الرُّشْدِ، فَإِنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْظُرَ بِعَيْنِ الرِّضَا إلى تَنَافُسِ النَّاسِ غَيْرِ البَرِيءِ في غَلَاءِ المُهُورِ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الإِنْكَارِ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي عُيُونِ الْأَنْصَارِ شَيْئَاً؟

قَالَ: قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا.

قَالَ: «عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟».

قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ؟! كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ».

قَالَ: فَبَعَثَ بَعْثَاً إِلَى بَنِي عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَد أَنْكَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على هَذَا الرَّجُلِ الذي أَصْدَقَ زَوْجَتَهُ على أَرْبَعِ أَوَاقٍ.

لَقَد أَمَرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُزَوِّجَ على الدِّينِ وَالخُلُقِ، فَلِمَاذَا المُمَاطَلَةُ؟ وَلِمَاذَا الأَعْذَارُ الوَاهِيَةُ؟ وَلِمَاذَا السُّؤَالُ عَنِ المَالِ وَالتِّجَارَةِ وَالوَظِيفَةِ وَالجَاهِ وَالمَكَانَةِ، وَغَضُّ الطَّرْفِ عَنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالخُلُقِ وَالأَمَانَةِ؟

أَمَا عَلِمَ هَؤُلَاءِ المَسَاكِينُ أَنَّ هَذَا التَّضْيِيقَ وَالظُّلْمَ أَدَّى إلى انْحِرَافِ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ؟ أَمَا سَمِعَ هَؤُلَاءِ عَنْ جَرَائِمِ إِسْقَاطِ الحَمْلِ غَيْرِ الشَّرْعِيِّ؟ أَمَا سَمِعَ هَؤُلَاءِ القِصَصَ الوَاقِعِيَّةَ لِضَحَايَا هَذِهِ المُغَالاةِ في المُهُورِ؟ أَمَا سَمِعُوا الحَوَادِثَ المُؤْلِـمَةَ وَالمُفْجِعَةَ التي سَطَّرَتْهَا دُمُوعُ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ؟

فَكِّرُوا في عَوَاقِبِ المُغَالَاةِ في المُهُورِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَكِّرُوا في عَوَاقِبِ المُغَالَاةِ في المُهُورِ، أَيَسُرُّ القَوْمَ أَنْ تُلَطَّخَ سُمْعَتُهُم مِمَّا يَنْدَى لَهُ جَبِينُ الفَضِيلَةِ وَالحَيَاءِ؟

لَقَد شَرَعَ الإِسْلَامُ المَهْرَ للمَرْأَةِ، وَوَلِيمَةَ العُرْسِ بِمَا يُنَاسِبُ الحَالَ، أَمَّا مَا عَدَاهَا فَهِيَ لَيْسَتْ فَرْضَاً وَلَا وَاجِبَاً، وَلَيْسَتْ شَرْطَاً من شُرُوطِ العَقْدِ وَالنِّكَاحِ، بَلْ رُبَّمَا أَنْ يَكُونَ الإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ في المَهْرِ سَبَبَاً من أَسْبَابِ المُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ وَالاسْتِكْبَارِ وَالاسْتِعْلَاءِ، وَلَقَد نَهَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَن الإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْـمُسْرِفِينَ﴾. كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومَاً مَحْسُورَاً﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْألُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: العِفَّةُ بُرْهَانٌ على صِدْقِ الإِيمَانِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ، وَحَيَاةِ القَلْب، وَهِيَ عِزُّ الحَيَاةِ وَشَرَفُهَا وَكَرَامَتُهَا؛ بِهَا تَحْصُلُ النَّجَاةُ من مَرَارَةِ الفَاحِشَةِ، وَآلَامِ المَعْصِيَةِ، وَحَسَرَاتِ عَذَابِ الآخِرَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَد خَابَ العَادُونَ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾. وَشَقِيَ الظَّالِمُونَ المُجْرِمُونَ؛ فَيَا سَعَادَةَ مَنْ عَفَّ، وَيَا فَوْزَ مَنْ كَفَّ، وَيَا هَنَاءَةَ مَنْ غَضَّ الطَّرْفَ، وَطُوبَى لِمَنْ حَفِظَ فَرْجَهُ، وَصَانَ عِرْضَهُ، وَأَحْصَنَ نَفْسَهُ، روى الإمام البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ».

وروى الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا شَبَابِ قُرَيْشٍ، لَا تَزْنُوا، أَلَا مَنْ حَفِظَ فَرْجَهُ فَلَهُ الجَنَّةَ».

وَعَلَيْنَا نَحْنُ أَوْلِيَاءُ أُمُورِ البَنَاتِ أَنْ نُيَسِّرَ أَسْبَابَ الزَّوَاجِ، وَذَلِكَ بِعَدَمِ المُغَالَاةِ في المُهُورِ، لِأَنَّ المُغَالَاةَ فِيهَا مَفْسَدَةٌ للشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ وَالمُجْتَمَعِ؛ والسَّعِيدُ مَنِ اتَّعَظَ بِغَيْرِهِ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 3/ رجب /1437هـ، الموافق: 10/ نيسان/ 2016م