503ـ خطبة الجمعة: القول خُلب، والفعل قُلب

.

503ـ خطبة الجمعة: القول خُلب، والفعل قُلب

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ طَغَتِ المَادَّةُ على الرُّوحِ، فَاجْتَثَّتِ الكَثِيرَ مِنَ القِيَمِ وَالأَخْلَاقِ، وَشَرَدَ النَّاسُ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَتَغَلْغَلَتْ في الأُمَّةِ عَادَةٌ سَيِّئَةٌ مُدَمِّرَةٌ، بَرَّحَتِ الأُمَّةَ وَأَتْعَبَتْهَا، حَذَّرَ اللهُ تعالى مِنْهَا في كِتَابِهِ العَظِيمِ وَنَدَّدَ، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. انْفِصَامُ العَمَلِ عَنِ القَوْلِ.

هَذِهِ العَادَةُ السَّيِّئَةُ اجْتَمَعَتْ في ذَوَاتِ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ، نَرَى القَوْلَ في وَادٍ وَالفِعْلَ في وَادٍ آخَرَ، دُونَ تَأَثُّمٍ وَدُونَ حَرَجٍ، سَارُوا في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا في ضِلَعٍ وَعِوَجٍ، العَقِيدَةُ في وَادٍ وَالقِيَمُ في وَادٍ آخَرَ، العِبَادَةُ في وَادٍ وَالأَخْلَاقُ في وَادٍ آخَرَ، الشَّعَائِرُ في وَادٍ وَالشُّعُورُ في وَادٍ آخَرَ، وَنَسِيَ هَؤُلَاءِ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.

القَوْلُ خُلَّبٌ، وَالفِعْلُ قُلَّبٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَصْبَحَتِ الأُمَّةُ وَأَمْسَتْ وَهِيَ تَسْمَعُ أَقْوَالَاً مُبَهْرَجَةً تَسْبِي القُلُوبَ وَالعُقُولَ، وَمَا هِيَ في الحَقِيقَةِ إلا هَبَاءٌ تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، المُتَكَلِّمُونَ بُلَغَاءُ مُفَوَّهُونَ، وَالأَحَادِيثُ آسِرَةٌ للقُلُوبِ، وَلَكِنَّ الفعْلَ خِدَاجٌ مُشَوَّهٌ، يُظْهِرُونَ بِالأَلْسُنِ الأُخُوَّةَ الصَّادِقَةَ، وَيُبْطِنُونَ بِالأَفْعَالِ العَدَاوَةَ الصَّرِيحَةَ، انْطَبَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾.

هَذِهِ هِيَ وَاللهِ حَقِيقَةُ الشَّرْقِ وَالغَرْبِ، وَحَقِيقَةُ مَنِ انْسَاقَ خَلْفَهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، لَقَدْ خَدَعُوا الأُمَّةَ بِشِعَارِ الرَّبِيعِ العَرَبِيِّ، فَأَنْتَجَ لَنَا هَذَا الرَّبِيعُ العَرَبِيُّ، بَلِ الجَحِيمُ العَرَبِيُّ، سَفْكَ دِمَائِنَا، وَسَلْبَ أَمْوَالِنَا، وَتَهْدِيمَ مُمْتَلَكَاتِنَا، وَتَيْتِيمَ أَطْفَالِنَا، وَتَرْمِيلَ نِسَائِنَا، وَتَشْيِيعَ الفَاحِشَةِ في صُفُوفِنَا، وَالتَّشْكِيكَ في دِينِنَا وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إنَّ النَّاسَ أَحْسَنُوا الْقَوْلَ كُلُّهُمْ، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ حَظَّهُ، وَمَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَإِنَّمَا يُوَبِّخُ نَفْسَهُ.

وَقَالُوا في الحِكَمِ: القَوْلُ خُلَّبٌ، وَالفِعْلُ قُلَّبٌ، وَأَصْدَقُ الأَقْوَالِ مَا نَطَقَتْ بِهِ صُوَرُ الأَفْعَالِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: هُنَاكَ مَنْ يُعَدُّ في الظَّاهِرِ مِنَ الأَفَاضِلِ الأَخْيَارِ، وَلَكِنْ إِذَا لُوِّحَ لَهُ بِالدُّنْيَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا مُؤَوِّلَاً النُصُوصَ، وَمُسْتَحِلَّاً لِمَا حَرَّمَ اللهُ تعالى، نَابِذَاً الشُّبُهَاتِ خَلْفَهُ ظِهْرِيَّاً، وَتَارِكَاً الوَرَعَ نَسْيَاً مَنْسِيَّاً، وَيَتَأَوَّلُ كِتَابَ اللهِ تعالى مُتَرَخِّصَاً، وَيَكْذِبُ على اللهِ تعالى مُتَخَرِّصَاً.

هُنَاكَ مَنْ كَانَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالعِلْمِ وَالفِقْهِ وَالزُّهْدِ وَالعِبَادَةِ، وَلَكِنَّهُ تَكَلَّمَ في هَذِهِ الأَزْمَةِ بِكَلِمَاتٍ في سَخَطِ اللهِ تعالى مَا أَلقَى لَهَا بَالَاً، وَلَا دَرَى كَيْفَ يَكُونُ أَثَرُهَا، فَزَلَّتْ قَدَمُهُ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الـمَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، كَلِمَاتٌ لَمْ يُلْقِ لَهَا بَالَاً سُفِكَت بِهَا الدِّمَاءُ البَرِيئَةُ، وَزُرِعَت بِهَا الأَحْقَادُ في نُفُوسِ الأُمَّةِ الوَاحِدَةِ، بِكَلِمَاتٍ مُزِّقَ شَمْلُ هَذِهِ الأُمَّةِ المُمَزَّقَةِ، وَزَادَ الفَسَادُ فَسَادَاً.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثٌ، زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تُفْتَحُ عَلَيْكُمْ».

الرَّجُلُ الكَامِلُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الرَّجُلُ الكَامِلُ هُوَ الذي جَمَعَ بَيْنَ القَوْلِ وَالعَمَلِ، هُوَ الذي جَاءَ فِعْلُهُ مُصَدِّقَاً لِقَوْلِهِ، هُوَ الذي مَا عَرَفَ التَّنَاقُضَ وَلَا الانْفِصَامَ في الشَّخْصِيَّةِ، هُوَ الذي جَعَلَ هَوَاهُ وِفْقَ هَوَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

 الرَّجُلُ الكَامِلُ هُوَ الذي إِذَا رَأَيْتَهُ رَأَيْتَ أَخْلَاقَ الإِسْلَامِ وَآدَابَهُ فِيهِ، إِذَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ، وَنَظَرْتَ فِعْلَهُ، ذَكَّرَكَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، تَرَاهُ مُحِبَّاً مَحْبُوبَاً، تَرَاهُ بَرَّاً رَحِيمَاً شَفُوقَاً، تَرَاهُ مَحْبُوبَاً لَا تَنْفِرُ مِنْهُ القُلُوبُ، إِذَا قَابَلَ النَّاسَ قَابَلَهُمْ بِالبِشْرِ وَالسُّرُورِ، وَأَرَادَ لَهُمُ الخَيْرَ، وَدَعَا لَهُمْ بِظَهْرِ الغَيْبِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: النَّاسُ اليَوْمَ يَنْتَظِرُونَ الأَفْعَالَ قَبْلَ الأَقْوَالِ، يَنْتَظِرُونَ الأَعْمَالَ وَالأَخْلَاقَ وَالآدَابَ قَبْلَ الكَلِمَاتِ، النَّاسُ اليَوْمَ يَنْتَظِرُونَ القُدْوَةَ الصَّالِحَةَ في الأَفْعَالِ، يَنْتَظِرُونَ مَنْ تَحَقَّقَ بِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلَاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ﴾. يَا مَنْ يَقُولُ: إِنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ؛ وَيَا مَنْ يَدْعُو إلى الإِسْلَامِ أَيْنَ عَمَلُكَ الصَّالِحُ؟

هَلْ سَفْكُ الدِّمَاءِ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ؟

هَلْ سَلْبُ الأَمْوَالِ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ؟

هَلْ تَرْوِيعُ الآمِنِينَ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ؟

وَهَلْ مَا يَجْرِي في بَلَدِنَا بِشَكْلٍ عَامٍّ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ؟

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا للعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالقَوْلِ الصَّالِحِ، مَعَ الإِخْلَاصِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ ذو القعدة /1437هـ، الموافق: 5/آب / 2016م