511ـ خطبة الجمعة: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا﴾

.

511ـ خطبة الجمعة: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا﴾

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الحَسَدَ وَسُوءَ الطَّوِيَّةِ على المُسْلِمِينَ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ، بَلْ هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ.

الحَسَدُ وَسُوءُ الطَّوِيَّةِ على المُسْلِمِينَ لَا تَلِيقُ بِالرَّجُلِ المُسْلِمِ، وَخَاصَّةً مِمَّنْ يَتَظَاهَرُ بِمَظَاهِرِ الصَّلَاحِ وَالإِصْلَاحِ، وَمِمَّنْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ ظَاهِرَ أَهْلِ الوَرَعِ وَالتَّقْوَى.

الحَسَدُ وَسُوءُ الطَّوِيَّةِ وَالحِقْدُ وَالغِلُّ وَالضَّغِينَةُ مِنْ أَخْطَرِ الأُمُورِ على حَيَاةِ الفَرْدِ وَالأُمَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ هِيَ صِفَاتُ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ، قَالَ تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارَاً حَسَدَاً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾.

هَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذينَ لَا يَأْلُونَ المُسْلِمِينَ خَبَالَاً، وَيَوَدُّونَ عَنَتَهُمْ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالَاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.

فَمَنِ الذي يَرْضَى أَنْ يَحْمِلَ في جَنَبَاتِ نَفْسِهِ، وَفِي طَيَّاتِ فُؤَادِهِ، وَفِي شِغَافِ قَلْبِهِ صِفَةً مِن الصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ؟ مَنِ الذي يَرْضَى أَنْ لَا يَنْدَرِجَ تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ؛ يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ العَلَاقَةَ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَأَخِيهِ الإِنْسَانِ، وَخَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ لِأَخِيهِ المُؤْمِنِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَاقَةَ مَوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ، عَلَاقَةً تَفِيضُ بِمَشَاعِرَ إِيمَانِيَّةٍ أَخَوِيَّةٍ لَا تَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ نَفْسِهِ أَو ذُرِّيَّتِهِ أَو أَقَارِبِهِ، بَلْ تَمْتَدُّ لِتَغْمُرَ مَنْ حَوْلَهُ، وَتَفِيضَ حُبَّاً وَسَلَامَاً وَسَلَامَةً وَأَمْنَاً على الآخَرِينَ، هَذِهِ هِيَ صِفَةُ الذينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، الذينَ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾. هَذَا هُوَ الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ الحَقُّ، صَاحِبُ القَلْبِ السَّلِيمِ على سَلَفِ الأُمَّةِ، وَخَاصَّةً على صَدْرِهَا الأَوَّلِ، وَصَاحِبُ القَلْبِ السَّلِيمِ على مَنْ يُعَاصِرُهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ نُفُوسَاً مَرِيضَةً خَرَّبَهَا الحِقْدُ، وَأَفْسَدَهَا الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، مَاذَا تَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا؟ وَمَاذَا تَتَصَوَّرُونَ أَنْ يَنْتُجَ مِنْ تِلْكَ القُلُوبِ التي مُزِجَ فِيهَا الغِلُّ وَالإِحَنُ وَالبَغْضَاءُ وَالعَدَاوَةُ؟

إِنَّ نُفُوسَاً مَا زُكِّيَتْ تَرَاهَا مُجْرِمَةً في حَقِّ الآخَرِينَ، لَمْ يَسْلَمْ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ أَحَدٌ، وَلَا مِنْ أَيَادِيهِمْ، لَا يَكُفُّونَ عَنِ الغِيبَةِ، بَلْ يَدْعُونَ إلى الخُصُومَةِ وَالعَدَاوَةِ، بَلْ وَإِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ البَرِيئَةِ.

أَصْحَابُ النُّفُوسِ المَرِيضَةِ لَا يَدْعُونَ لِإِخْوَانِهِمْ بِظَهْرِ الغَيْبِ، وَلَا يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِأَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ، يُؤَوِّلُونَ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ، وَيُؤَوِّلُونَ إِجْرَامَهُمْ تَأْوِيلَاً لَا يَمَسُّ دِينَ اللهِ تعالى بِصِلَةٍ، أَصْحَابُ هَؤُلَاءِ النُّفُوسِ يُخْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ تَنَاقُصِ الإِيمَانِ، وَضَيَاعِ الحَسَنَاتِ، وَتَحَمُّلِ الأَوْزَارِ، روى أَبُو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الحَسَدَ وَسُوءَ الطَّوِيَّةِ رُبَّمَا امْتَدَّتْ بِأَصْحَابِهَا إلى أَنْ جَعَلْتَهُمْ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى يَقَعُونَ في الصَّغَائِرِ، ثمَّ يُصِرُّونَ عَلَيْهَا فَتَكُونُ مِنَ الكَبَائِرِ، ثمَّ يَقَعُونَ في الكَبَائِرِ، ثمَّ يُوغِلُونَ فِيمَا يُوجِبُ اللَّعْنَةَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

أَصْحَابُ القُلُوبِ الفَاسِدَةِ يَتَمَنَّوْنَ وَيَتَلَذَّذُونَ بِإِيقَادِ نَارِ العَدَاوَةِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، وَذَلِكُمْ هُوَ الذي حَذَّرَ مِنْهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْـمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَصْحَابُ القُلُوبِ الفَاسِدَةِ الحَاقِدَةِ الحَاسِدَةِ صَاحبَةِ سُوءِ الطَّوِيَّةِ يَفْرَحُونَ وَيُـسَرُّونَ إِذَا شَاهَدُوا القُلُوبَ قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ قَدْ تَنَافَرَ وُدُّهَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ مَوْلَانَا جَلَّ وَعَلَا: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾. فَلْيُفَكِّرْ كُلٌّ مِنَّا هَلْ هُوَ صَاحِبُ قَلْبٍ سَلِيمٍ أَمْ صَاحِبُ قَلْبٍ حَقُودٍ حَسُودٍ ذِي طَوِيَّةٍ سَيِّئَةٍ على المُسْلِمِينَ؟

كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَعْرِفُ نَفْسَهُ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾. يَعْنِي مِنْ بَعْدِ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾. فَهَلْ تَدْعُو لِسَلَفِ الأُمَّةِ وَخَلَفِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلَاً، هَلْ في قَلْبِكَ غِلٌّ وَحِقْدٌ وَحَسَدٌ على أَحَدٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ؟

نَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ سَلَامَةَ القُلُوبِ وَطَهَارَتِهَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 21/ ذو الحجة /1437هـ، الموافق: 23/أيلول / 2016م