514ـ خطبة الجمعة: اتهموا رأيكم

514ـ خطبة الجمعة: اتهموا رأيكم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يَا عِبَادَ اللهِ: عِنْدَمَا تَحُلُّ الفِتَنُ وَالمِحَنُ وَالكَوَارِثُ وَالنَّكَبَاتُ في الأُمَّةِ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ للخُرُوجِ مِنْهَا إلا بِالتَّنَاصُحِ الوَاعِي، وَالمُوَاجَهَةِ الصَّادِقَةِ، وَالمُحَاسَبَةِ الدَّقِيقَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُمَّةِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ إلا وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَمَّا يَجْرِي في بَلَدِهِ، إلا وَهُوَ على ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الإِسْلَامِ، إلا وَلَهُ دَوْرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ للخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ الفِتَنِ وَالمَحَنِ وَالكَوَارِثِ وَالنَّكَبَاتِ.

الحَذَرُ مِنَ الاعْتِدَادِ بِالرَّأْيِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: في أَيَّامِ الفِتَنِ وَالمِحَنِ يَجِبُ على الأُمَّةِ أَنْ تَكُونَ على حَذَرٍ مِنَ الاعْتِدَادِ بِالرَّأْيِ وَالإِعْجَابِ بِهِ المُؤَدِّي إلى الغُرُورِ وَالاسْتِكْبَارِ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ الأُمَّةَ مِنْ ذَلِكَ.

روى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟

قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟

قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.

قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرَاً، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحَّاً مُطَاعَاً، وَهَوَىً مُتَّبَعَاً، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعِ العَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَاً الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلَاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ».

يَا عِبَادَ اللهِ: أَخْطَرُ مَا يَكُونُ على الأُمَّةِ هُوَ الاعْتِدَادُ بِالرَّأْيِ مِنْ قِبَلِ أَصْحَابِ الشَّأْنِ، وَالعُلَمَاءِ، فَالوَاجِبُ على هَؤُلَاءِ أَنْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ السَّلَفِ الصَّالِحِ في التَّوَاضُعِ وَالرُّجُوعِ إلى الحَقِّ، وَاتِّهَامِ الآرَاءِ وَالاجْتِهَادَاتِ التي تُؤَدِّي إلى سُوءِ الحَالِ، وَزِيَادَةِ الفِتَنِ وَالمِحَنِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الاعْتِدَادَ بِالرَّأْيِ وَالإِعْجَابَ بِهِ مَرَدُّهُ إلى الاسْتِكْبَارِ الذي يَكُونُ مَانِعَاً مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ أَوَّلِ الدَّاخِلِينَ بِالنِّسْبَةِ لِعُصَاةِ المُسْلِمِينَ، أَو يَكُونُ مَانِعَاً مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ بِالكُلِّيَّةِ لِمَنِ اسْتَكْبَرُوا عَنْ قَبُولِ الحَقِّ وَالانْصِيَاعِ لَهُ، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ .... الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ».

الكِبْرُ هُوَ رَدُّ الحَقِّ على قَائِلِهِ، وَاحْتِقَارُ النَّاسِ بِآرَائِهِمْ.

بَطَرُ الحَقِّ: هُوَ أَنْ يَتَجَبَّرَ عِنْدَ الحَقِّ، فَلَا يَرَاهُ حَقَّاً؛ وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَنِ الحَقِّ فَلَا يَقْبَلُهُ.

وَغَمْطُ النَّاسِ: أَي احْتِقَارُهُمْ، وَلَمْ يَرَهُمْ شَيْئَاً.

اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَو سَلَكَ عُلَمَاؤُنَا اليَوْمَ الذينَ نَفَخُوا في نَارِ هَذِهِ الأَزْمَةِ مَسْلَكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ في الصِّدْقِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّجَرُّدِ وَالتَّسَامُحِ لَصَلُحَ حَالُ الأُمَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْلُحَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ إلا بِمَا صَلُحَ بِهِ أَوَّلُهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلا بِاتِّهَامِ الآرَاءِ وَعَدَمِ الاغْتِرَارِ بِهَا.

روى الشيخان عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا (شَدِيدٍ عَلَيْنَا) إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ (أَوْصَلَتْنَا إلى شَيْءٍ وَاضِحٍ فِيهِ خَيْرٌ) غَيْرَ هَذَا الأَمْرِ (أَيْ: إلا هَذِهِ الفِتْنَةَ التي وَقَعَتْ بَيْنَ المُسْلِمِينَ فَإِنَّهَا مُشْكِلَةٌ عَلَيْنَا فَلَا نَدْرِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُقْتَلُ المُسْلِمُونَ؛ فَنَزْعُ السَّيْفِ وَغَمْدِهِ في هَذَا المَوْطِنِ أَوْلَى مِنْ سَلِّهِ).

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا قَالَهُ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ، هُوَ مَا قَالَهُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي وَائِلٍ، أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ يَوْمَ الحُدَيبِيَةِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟

قَالَ: «بَلَى».

قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟

قَالَ: «بَلَى».

قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ، وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ.

فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدَاً».

قَالَ: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظَاً؛ فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ، وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟

فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدَاً.

قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ، فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ فَتْحٌ هُو؟

قَالَ: «نَعَمْ» فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدِ اتَّهَمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَأْيَهُمْ وَتَنَازَلُوا عَنْهُ، وَتَأَسَّفُوا على اتِّخَاذِهِ ابْتِدَاءً، وَلَكِنِ اليَوْمَ مَا زَالَ البَعْضُ مُتَصَلِّبَاً بِرَأْيِهِ وَمَوْقِفِهِ على الرَّغْمِ مِمَّا جَرَى في هَذَا البَلَدِ مِنْ صُوَرِ الإِجْرَامِ وَالدَّمَارِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنْ لَمْ نَكُنْ مِثْلَهُمْ، أَلَيْسَ مِنَ الحِكْمَةِ أَنْ نَتَشَبَّهَ بِهِمْ وَنُحَاوِلَ التَّأَسِّيَ بِهِمْ، فَالتَّشَبُّهُ بِالرِّجَالِ فَلَاحٌ وَنَجَاحٌ، لَقَدْ كَانُوا رِجَالَاً وَعَيْبٌ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُمْ رَجُلٌ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الحِرْصَ الحِرْصَ على دِمَاءِ المُسْلِمِينَ، الحِرْصَ الحِرْصَ على أَعْرَاضِ المُسْلِمِينَ، الحِرْصَ الحِرْصَ على مُمْتَلَكَاتِ المُسْلِمِينَ، الحِرْصَ الحِرْصَ على شَبَابِ المُسْلِمِينَ وَشَابَّاتِهِمْ، الحِرْصَ الحِرْصَ على جَمْعِ كَلِمَةِ المُسْلِمِينَ، الحِرْصَ الحِرْصَ على أُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَسْخَرَ مِنْهَا عَدُوُّهَا، وَيَسْتَخِفَّ بِعَقْلِهَا، سَيِّدُنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَمَا دُعِيَ إلى القِتَالِ أَيَّامَ الفِتْنَةِ قَالَ: لَا أُقَاتِلُ حَتَّى يَأْتُونِي بِسَيْفٍ لَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ، يَعْرِفُ الْكَافِرَ مِنَ الْـمُؤْمِنِ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا وَرُدَّ شَبَابَنَا وشَابَّاتِنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 13/ محرم /1438هـ، الموافق: 14/تشرين الأول / 2016م