35-دروس رمضانية 1437هـ:«فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟»

.

دروس رمضانية 1437هـ

35ـ «فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَيَاةُ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَابْتِلَاءٍ، دَارُ امْتِحَانٍ وَاخْتِبَارٍ، قَدَّرَ اللهُ تعالى فِيهَا المَوْتَ على الجَمِيعِ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ﴾. هَذِهِ الدَّارُ مَشْحُونَةٌ بِالمَتَاعِبِ، مَمْلُوءَةٌ بِالمَصَائِبِ، طَافِحَةٌ بِالأَكْدَارِ وَالأَحْزَانِ، نَعِيمُهَا يَزُولُ، عَزِيزُهَا في غَيْرِ طَاعَةٍ يُذَلُّ، سَعِيدُهَا بِغَيْرِ طَاعَةٍ للهِ تعالى يَشْقَى، حَيُّهَا يَمُوتُ، أَفْرَاحُهَا مُزِجَتْ بِالأَتْرَاحِ، وَحَلَاوَتُهَا بِالمَرَارَةِ، وَرَاحَتُهَا بِالتَّعَبِ، فَلَا يَدُومُ لَهَا حَالٌ، وَلَا يَطْمَئِنُّ لَهَا بَالٌ، فَكَمْ مِنْ مَلِكٍ كَانَ لَهُ عَلَامَاتٌ، فَلَمَّا عَلَا مَاتَ، وَكَمْ مِنْ جَبَّارٍ عَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً، وَسَادَ على النَّاسِ، وَأَظْهَرَ سَطْوَتَهُ وَجَبَرُوتَهُ، حَتَّى ارْتَعَدَتْ مِنْهُ الفَرَائِصُ، وَوَجِلَتْ مِنْهُ القُلُوبُ، ثمَّ طَوَتْهُمُ الأَرْضُ بَعْدَ حِينٍ، فَإِذَا بِهِمُ افْتَرَشُوا التُّرَابَ، وَالْتَحَفُوا الثَّرَى، وَأَصْبَحُوا خَبَرَاً بَعْدَ عَيْنٍ، وَأَثَرَاً بَعْدَ ذَاتٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ البَشَرِ سَالِكٌ هَذَا الطَّرِيقَ الذي سَلَكُوهُ، وَسَيُدْرِكُ الحَالَ الذي أَدْرَكُوهُ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَا جَعَلَ اللهُ تعالى طَبِيعَةَ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالصُّورَةِ التي ذَكَرْنَاهَا إلا رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ، حَتَّى لَا يَطْمَئِنُّوا إِلَيْهَا وَلَا يَرْكَنُوا إلى نَعِيمِهَا، وَحَتَّى يَعْشَقُوا الآخِرَةَ؛ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ طُلَّابِ الآخِرَةِ.

مَنْ طَالَ أَمَلُهُ سَاءَ عَمَلُهُ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: أَضَرُّ شَيْءٍ على الإِنْسَانِ طُولُ الأَمَلِ، وَالغَفْلَةُ عَنِ اليَوْمِ الآخِرِ، مَنْ طَالَ أَمَلُهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغَلَبَ على قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ يَنْسَى المَوْتَ الذي يُهَدِّدُهُ في كُلِّ لَحْظَةٍ، المَوْتُ الذي قَالَ فِيهِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ إِنَّ الْـمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَنْ طَالَ أَمَلُهُ سَاءَ عَمَلُهُ، لِأَنَّ طُولَ الأَمَلِ يُوَرِّثُ الإِنْسَانَ الحِرْصَ على الدُّنْيَا، وَيُلْهِيهِ عَمَّا هُوَ آتِيهِ، وَيُنْسِيهِ المَصِيرَ المُخِيفَ، قَالَ تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْـمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْـمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾. شَيْءٌ خَطِيرٌ، وَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، فَصَاحِبُ الأَمَلِ في الدُّنْيَا أَلْهَاهُ التَّكَاثُرُ عَنْ هَذَا المَصِيرِ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: انْظُرُوا إلى الرَّبْطِ بَيْنَ سُوَرِ القُرْآنِ، قَالَ تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾. ثمَّ قَالَ عَقِبَهَا: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾. أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ بِالمَالِ وَالحِرْصُ على الدُّنْيَا عَنْ هَذَا المَصِيرِ المُخِيفِ.

«فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟»:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَنْ نَظَرَ إلى الدُّنْيَا بِعَيْنِ البَصِيرَةِ عَرَفَ حَقَارَتَهَا وَتَفَاهَتَهَا، وَرَأَى أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِأَهْلٍ لِأَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهَا، وَهَكَذَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَنْظُرُونَ إلى الدُّنْيَا بَعْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ وَالبيهقي عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟».

قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنَاً حَقَّاً.

فَقَالَ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟».

فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزَاً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا.

فَقَالَ: «يَا حَارِثَةُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ» ثَلَاثَاً.

وفي رِوَايَةٍ للبيهقي قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا رَأَيْنَا غَيْرَ المُؤْمِنِينَ مُنْهَمِكِينَ في الدُّنْيَا، وَحَرِيصِينَ عَلَيْهَا أَشَدَّ الحِرْصِ، وَحَرِيصِينَ على أَمَلِ طُولِ البَقَاءِ فِيهَا، فَلَا تَسْتَغْرِبُوا، لِأَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا هِيَ جَنَّتُهُمْ، وَلَكِنَّ الغَرَابَةَ وَالعَجَبَ كُلُّ العَجَبِ مِنَ المُؤْمِنِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَكُونَ حُبُّ الدُّنْيَا، وَطُولُ البَقَاءِ فِيهَا هُمَا شُغْلُهُ الشَّاغِلُ لَيْلَاً وَنَهَارَاً، وَهُوَ يَذْكُرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾.

وَيَذْكُرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْـمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾. اللَّهُمَّ أَخْرِجْ مِنْ قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

             الخميس: 18/ رمضان /1437هـ، الموافق: 23/ حزيران / 2016م