36-دروس رمضانية 1437هـ:ماذا بعد المعصية؟

.

دروس رمضانية 1437هـ

36ـ ماذا بعد المعصية؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ يَنْسَلِخُ شَيْئَاً فَشَيْئَاً، وَتَتَسَرَّبُ أَيَّامُهُ كَمَا يَتَسَرَّبُ المَاءُ مِنْ بَينِ الأَصَابِعِ؛ بِالأَمْسِ دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهَا نَحْنُ أَشْرَفْنَا على العَشْرِ الأَخِيرِ مِنْهُ.

هَذَا الشَّهْرُ العَظِيمُ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ المَغْفِرَةِ، وَقَدْ خَابَ وَخَـسِرَ مَنْ لَمْ يَسْتَغِلَّ هَذِهِ الفُرْصَةَ العَظِيمَةَ، خَابَ وَخَسِرَ مَنْ وَقَعَ تَحْتَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَتَحْتَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الحاكم عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْضَرُوا الْمِنْبَرَ».

فَحَضَرْنَا فَلَمَّا ارْتَقَى دَرَجَةً قَالَ: «آمِينَ»، فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّانِيَةَ قَالَ: «آمِينَ»، فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ قَالَ: «آمِينَ».

فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ الْيَوْمَ شَيْئَاً مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ؟

قَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَضَ لِي فَقَالَ: بُعْدَاً لِمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَغْفَرْ لَهُ قُلْتُ: آمِينَ؛ فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّانِيَةَ قَالَ: بُعْدَاً لِمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ قُلْتُ: آمِينَ؛ فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّالِثَةَ قَالَ: بُعْدَاً لِمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ عِنْدَهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ قُلْتُ: آمِينَ».

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: المَعَاصِي التي يَقْتَرِفُهَا النَّاسُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَخَاصَّةً في شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ، الشَّهْرُ الذي فُتِحَتْ فِيهِ أَبْوَابُ الجِنَانِ، وَغُلِّقْتْ فِيهِ أَبْوَابُ النِّيرَانِ، وَنَادَى المُنَادِي: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَبَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، لَهَا آثَارٌ مُدَمِّرَةٌ على الفَرْدِ وعلى المُجْتَمَعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قِوَامَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَصَلَاحَهَا إِنَّمَا هُوَ في الطَّاعَةِ وَالاسْتِقَامَةِ على أَمْرِ اللهِ تعالى، وَالتَّقَيُّدِ بِالشَّرْعِ الشَّرِيفِ الحَنِيفِ، وَكُلُّ انْحِرَافٍ عَنْ أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعٍ لِنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَكُلُّ تَفَلُّتٍ عَنْ هَذَا الدِّينِ إِنَّمَا هُوَ رَكْضٌ وَرَاءَ السَّرَابِ، وَضَرْبٌ في تِيهِ الشَّقَاءِ.

مَاذَا جَنَيْتَ بَعْدَ المَعْصِيَةِ؟

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: قُولُوا لِهَذَا العَبْدِ الذي جَنَى عَلى نَفسِهِ وَأَسْرَفَ في حَقِّهَا وَأَوْقَعَهَا في المَعَاصِي وَالإِعْرَاضِ عَنِ اللهِ تعالى، كَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ اللهِ تعالى ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ قُولُوا لَهُ: مَاذَا جَنَيْتَ بَعْدَ المَعْصِيَةِ؟

أولاً: أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّ اللهَ تعالى حَرَمَكَ بِسَبَبِ المَعَاصِي نِعْمَةَ العِلْمِ النَّافِعِ، حَرَمَكَ نِعْمَةَ نُورِ العِلْمِ الذي يَجْعَلُكَ على بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِكَ، حَرَمَكَ نِعْمَةَ الدُّخُولِ في النُّورِ، الذي قَالَ تعالى عَنْهُ: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾؟

يُرْوَى أَنَّ الإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى لَمَّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ إِمَامِ دَارِ الهِجْرَةِ الإِمَامِ مَالِكٍ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ، أَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ وُفُورِ فِطْنَتِهِ، وَتَوَقُّدِ ذَكَائِهِ، وَكَمَالِ فَهْمِهِ؛ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَى اللهَ قَدْ أَلْقَى على قَلْبِكَ نُورَاً، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ المَعْصِيَةِ.

ثمَّ تَمَثَّلَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الوَصِيَّةَ بِأَبْيَاتٍ سَرَتْ بَيْنَ طُلَّابِ العِلْمِ مَسِيرَ الشَّمْسِ في الدُّنْيَا:

شَكَوْتُ إلى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي   ***   فَأَرْشَدَنِي إلى تَرْكِ المَعَاصِي

وَأَخْـبَـرَنِي بِـأَنَّ الـعِـلْــمَ نُـورٌ   ***   وَنُورُ اللهِ لَا يُهدَى لِعَاصِي

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: قَدْ يَقُولُ أَحَدُنَا: إِنَّ فُلَانَاً مِنَ النَّاسِ قَدْ أُعْطِيَ حِفْظَاً وَاسْتِحْضَارَاً رَغْمَ فِسْقِهِ وَفُجُورِهِ المَشْهُورِ بَيْنَ النَّاسِ، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟

الجَوَابُ على ذَلِكَ نَجِدُهُ في قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. فَلَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ يُؤْتِيهِ اللهُ تعالى العَبْدَ يَرْفَعُهُ بِهِ، بَلْ يَرْفَعُ اللهُ تعالى مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ.

أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾؟ فَهُمْ حَمَلُوهَا عِلْمَاً، وَلَمْ يَحْمِلُوهَا عَمَلَاً، فَمَاذَا نَفَعَهُمْ ذَلَكَ؟

لَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا» رواه الإمام مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

نَعَمْ أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ، كَمْ مِنْ فَاجِرٍ فَاسِقٍ وَهُوَ عَالِمٌ، وَلَكِنْ حِفْظُهُ مِنَ العِلْمِ القِيلُ وَالقَالُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَالعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ العِلْمُ الذي يُوَلِّدُ الخَشْيَةَ مِنَ اللهِ تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. فَعِلْمٌ لَا يُوَلِّدُ خَشْيَةً، وَلَا يَدْفَعُ للعَمَلِ هُوَ عِلْمٌ غَيْرُ نَافِعٍ، وَهُوَ قَائِدٌ لِصَاحِبِهِ إلى نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ، وَالذينَ مِنْهُمْ العَالِمُ غَيْرُ العَامِلِ: «أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ثانياً: يَا أَيُّهَا العَاصِي، مَاذَا جَنَيْتَ بَعْدَ مَعْصِيَتِكَ؟ أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّ اللهَ تعالى حَرَمَكَ الأُنْسَ بِهِ بِسَبَبِ مَعَاصِيكَ؟ أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّكَ تَسْتَثْقِلُ الطَّاعَاتِ بِسَبَبِ مَعَاصِيكَ؟ أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّ المَعْصِيَةَ سَهْلَةٌ عَلَيْكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَعَاصِيكَ؟

أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّكَ مَيِّتٌ بَيْنَ الأَحْيَاءِ ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾. أَمَا تَشْعُرُ باسْتِصْغَارِ نَفسِكَ بَعدَ الانْتِهَاءِ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ لِأَهْلِ الطَّاعَاتِ، وَأَنْتَ مَحْرُومٌ مِنْهَا؟

ثالثاً: يَا أَيُّهَا العَاصِي، مَاذَا جَنَيْتَ بَعْدَ مَعْصِيَتِكَ؟ أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّكَ في حَيْرَةٍ وَشَقَاءٍ وَتَمَزُّقِ قَلْبٍ؟ أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّ حَيَاتَكَ ضَنْكٌ؟ أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يَحُفُّونَكَ مِنْ كُلِّ جِهَاتِكَ؟ أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّكَ بَعِيدٌ عَنِ الصَّالِحِينَ الذينَ هُمْ عِزٌّ لِمَنْ صَاحَبَهُمْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ. أَمَا تَشْعُرُ بِأَنَّ أَصْحَابَكَ هُمْ أَعْدَاؤُكَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ؟ ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْـمُتَّقِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ ضَاعَتِ الأُمَّةُ بَعْدَ ضَيَاعِ الأَفْرَادِ بِسَبَبِ الإِعْرَاضِ عَنِ اللهِ تعالى، لَقَدْ ضَاعَ عِزُّ الأُمَّةَ بَعْدَ الإِعْرَاضِ عَنِ اللهِ تعالى، وَرَضِيَ اللهُ تعالى عَنْ فَارُوقِ هَذِهِ الأُمَّةِ عِنْدَمَا قَالَ: إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهُ. رواه الحاكم.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: أَيَّامٌ مُبَارَكَةٌ قَلِيلَةٌ بَقِيَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَهَلْ مِنْ مُغْتَنِمٍ لَهَا؟ وَهَلْ مِنْ حَرِيصٍ عَلَيْهَا؟ وَهَلْ مِنْ مُصْطَلِحٍ مَعَ اللهِ تعالى؟

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا لَذَّةَ الطَّاعَةِ في الدُّنْيَا، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إلى وَجْهِكَ الكَرِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

             الخميس: 18/ رمضان /1437هـ، الموافق: 23/ حزيران / 2016م