40-دروس رمضانية 1437هـ:من فوائد فتح مكة

.

دروس رمضانية 1437هـ

40ـ من فوائد فتح مكة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ في هَذَا اليَوْمِ المُبَارَكِ نَعِيشُ ذِكْرَى فَتْحِ مَكَّةَ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الجَمِيعِ، وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهَا فَائِدَةً مِنْ فَوَائِدِ فَتْحِ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، مِنْ هَذِهِ الفَوَائِدِ، أَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الحَقِّ أَبَدَاً إلا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ الخَطَأَ يَجُوزُ على بَقِيَّةِ البَشَرِ مِنْ صَغِيرٍ أَو كَبِيرٍ، أَو مِنْ جَاهِلٍ أَو عَالِمٍ، أَو مِنْ تَابِعٍ أَو مَتْبُوعٍ، فَلَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ زَلَّةٍ أَو هَفْوَةٍ.

مَنْ قَلَّتْ أَخْطَاءُهُ غُمِرَتْ في بِحَارِ حَسَنَاتِهِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَتَعَلَّمْ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ مَسْأَلَةً أَخْلَاقِيَّةً نَحْنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَيْهَا، لِنَتَعَلَّمْ أَنَّ مَنْ كَثُرَ خَيْرُهُ وَحَسَنَاتُهُ إِذَا وَقَعَ في خَطَأٍ فَإِنَّ أَخْطَاءَهُ تُغْمَرُ في بِحَارِ حَسَنَاتِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ للخَيْرِ الأَعْظَمِ وَالأَكْبَرِ مَا يَغْفِرُ زَلَلَاً قَدْ سَبَقَ، وَزَلَلَاً قَدْ مَضَى.

في فَتْحِ مَكَّةَ دَعَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَائِلَاً: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا».

وَهُنَا وَقَعَ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعَاً في خَطَأٍ كَبِيرٍ، وَقَعَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ في خَطَأٍ كَبِيرٍ وَجَسِيمٍ  حَيْثُ كَتَبَ إلى قُرَيْشٍ كِتَابَاً يُخْبِرُهُمْ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلَاً على أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشَاً، فَجَعَلَتْهُ في قُرُونِ رَأْسِهَا، ثمَّ خَرَجَتْ بِهِ، وَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ.

روى الإمام البخاري عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الغَنَوِيَّ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ المُشْرِكِينَ، مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى المُشْرِكِينَ».

فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: الكِتَابُ.

فَقَالَتْ: مَا مَعَنَا كِتَابٌ.

فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابَاً، فَقُلْنَا: مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ؛ فَلَمَّا رَأَتِ الجِدَّ أَهْوَتِ الى حُجْزَتِهَا   (مَوضِعِ الْإِزَارِ) ، وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتْهُ؛ فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبَ عُنُقَهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟».

قَالَ حَاطِبٌ: وَاللهِ مَا بِي أَنْ لَا أَكُونَ مُؤْمِنَاً بِاللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ القَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرَاً».

فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبَ عُنُقَهُ.

فَقَالَ: «أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ، أَوْ: فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».

فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

وَهَكَذَا أَخَذَ اللهُ العُيُونَ، فَلَمْ يَبْلُغْ إلى قُرَيْشٍ أَيُّ خَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ تَجَهُّزِ المُسْلِمِينَ وَتَهَيُّئِهِمْ للزَّحْفِ وَالقِتَالِ.

وَقَفَاتٌ مَعَ هَذَا الحَدَثِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَقِفْ مَعَ هَذَا الحَدَثِ وَقْفَةَ المُتَدَبِّرِ المُنْتَفِعِ مِنْ سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ سِيرَةِ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

الوَقْفَةُ الأُولَى:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَا أَجْمَلَ الإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَكُونُ على بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ؛ هَذَا الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ الذي وَقَعَ في هَذَا لخَطَأِ الكَبِيرِ، الذي يُسَمَّى في قَوَانِينِ العَالَمِ اليَوْمَ بِالخِيَانَةِ العُظْمَى، وَالتي يَكُونُ عِقَابُهَا الإِعْدَامَ، إِنَّهُ كَشْفٌ لِأَسْرَارٍ لَوْ وَصَلَتْ إلى الأَعْدَاءِ رُبَّمَا أَحْدَثَتْ كَارِثَةً عَظِيمَةً للصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ.

هَذَا الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ لَيْسَ مِنْ عَوَامِّ الصَّحَابَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ خَاصَّتِهِمْ، وَمِنْ أُولِي الفَضْلِ مِنْهُمْ، إِنَّهُ بَدْرِيٌّ، وَيَكْفِيهِ هَذَا شَرَفَاً، وَمَعَ ذَلِكَ أَخْطَأَ، لِتَعْلَمَ البَشَرِيَّةُ جَمْعَاءَ أَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِأَحَدٍ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ فَالكُلُّ مُعَرَّضٌ للخَطَأِ.

الوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تُعَلِّمُنَا هَذِهِ الحَادِثَةُ، أَنَّهُ يَجِبُ على المُؤْمِنِ أَنْ لَا يُصِرَّ على الخَطَأِ، وَأَنْ لَا يُبَرِّرَ الخَطَأَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ وَيَعْتَرِفَ، وَأَنْ يَنْدَمَ، وَأَنْ يُصْلِحَ مَا أَفْسَدَهُ، وَهَذَا مِنْ وَصْفِ المُتَّقِينَ ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

الوَقْفَةُ الثَّالِثَةُ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تُعَلِّمُنَا هَذِهِ الحَادِثَةُ، أَنَّهُ يَجِبُ التَّرَيُّثُ قَبْلَ صُدُورِ الأَحْكَامِ، فَهَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَعَجَّلْ في الحُكْمِ على حَاطِبٍ، بَلْ سَمِعَ لَهُ عُذْرَهُ، وَلَمَّا سَمِعَ عُذْرَهُ وَعَلِمَ صِدْقَهُ عَفَا عَنْهُ.

كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى السَّمَاعِ قَبْلَ الحُكْمِ، وَقَبُولِ الأَعْذَارِ، رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَمَا يُحَاسِبُ العِبَادَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، يَقُولُ لِلْعَبْدِ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ رواه الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

الوَقْفَةُ الرَّابِعَةُ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تُعَلِّمُنَا هَذِهِ الحَادِثَةُ، أَنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالطَّيْشِ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ بِاتِّخَاذِ مَوْقِفٍ لِحَدَثٍ يَحْصُلُ، وَيَتْرُكَ المَاضِي المَلِيئَ  بِالخَيْرَاتِ وَالحَسَنَاتِ وَالعَطَاءِ.

الوَقْفَةُ الخَامِسَةُ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تُعَلِّمُنَا هَذِهِ الحَادِثَةُ، أَنَّ اللهَ تعالى تَكَفَّلَ بِحِمَايَةِ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ، فَضْلَاً عَنِ الأَجْرِ العَظِيمِ المُدَّخَرِ لَهُمْ في الآخِرَةِ، فَهَذَا سَيِّدُنَا حَاطِبٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَنْزِلُ الوَحْيُ بِسَبَبِهِ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالعَفْوِ عَنْهُ؛ عَلَيْنَا أَنْ نَتَذَكَّرَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ أَنَّ الحَافِظَ الحَقِيقِيَّ إِنَّمَا هُوَ اللهُ تعالى وَحْدَهُ، وَمَا الخُطَطُ وَالتَّدَابِيرُ إلا أَسْبَابٌ، لَا تُقَدِّمُ وَلَا تُؤَخِّرُ ـ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِأَنَّا كُلِّفْنَا بِهَا ـ إلا بِمَشِيئَةِ اللهِ تعالى.

عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَامَلَ بِالأَخْلَاقِ السَّامِيَةِ الرَّاقِيَةِ فِيمَا بَيْنَنَا، لِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ في تَكَاتُفِ المُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

              السبت: 20/ رمضان /1437هـ، الموافق: 25/ حزيران / 2016م