42-دروس رمضانية 1437هـ:الأمانة والإيمان

.

دروس رمضانية 1437هـ

42ـ الأمانة والإيمان

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: خُلُقُ الأَمَانَةِ خُلُقٌ عَظِيمٌ، لَو تَحَلَّى بِهَذَا الخُلُقِ المُجْتَمَعُ لَسَادَ الأَمْنُ وَالأَمَانُ، وَلَعَمَّتِ الثِّقَةُ بَيْنَ الأَفْرَادِ؛ خُلُقُ الأَمَانَةِ يَدْفَعُ الإِنْسَانَ لِأَدَاءِ الوَاجِبِ الذي عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُهُ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ على عَدَمِ التَّفْرِيطِ في حُقُوقِ الآخَرِينَ.

خُلُقُ الأَمَانَةِ لَهُ ارْتِبَاطٌ وَثِيقٌ بِالإِيمَانِ، وَالعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ تَلَازُمِيَّةٌ، فَعِنْدَمَا يَقْوَى الإِيمَانُ يَقْوَى خُلُقُ الأَمَانَةِ، وَإِذَا ضَعُفَ الإِيمَانُ ضَاعَتِ الأَمَانَةُ، وَضَاعَتْ مَعَهَا الحُقُوقُ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَو وُجِدَ خُلُقُ الأَمَانَةِ في القَوْمِ لَاسْتَرَاحُوا وَلَأَرَاحُوا، وَمَا رَأَيْتَ خُصُومَاتٍ، وَمَا رَأَيْتَ شَهَادَةَ زُورٍ، وَمَا رَأَيْتَ رَشَاوِيَ، وَمَا رَأَيْتَ حَقَّاً يَضِيعُ، لِأَنَّ أَفْرَادَ ذَاكَ المُجْتَمَعِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُفَكِّرُ بِالوَاجِبِ الذي عَلَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يُفَكِّرَ في الحَقِّ الذي لَهُ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَمَّا تَوَلَّى الخِلَافَةَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَعَانَ بِالفَارُوقِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَوَلَّاهُ القَضَاءَ، وَبَعْدَ مُضِيِّ عَامٍ جَاءَ سَيِّدُنَا عُمَرُ يَطْلُبُ إِعْفَاءَهُ مِنَ القَضَاءِ.

فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَمِنْ مَشَقَّةِ القَضَاءِ تَطْلُبُ الإِعْفَاءَ يَا عُمَرَ؟!

فَقَالَ: لَا يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ بِي عِنْدَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، عَرَفَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا لَهُ مِنْ حَقٍّ فَلَمْ يَطْلُبْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبٍ فَلَمْ يُقَصِّرْ في أَدَائِهِ؛ أَحَبَّ كُلٌّ مِنْهُمْ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ، إِذَا غَابَ أَحَدُهُمْ تَفَقَّدُوهُ، وَإِذَا مَرِضَ أَحَدُهُمْ عَادُوهُ، وَإِذَا افْتَقَرَ أَعَانُوهُ، وَإِذَا احْتَاجَ سَاعَدُوهُ، وَإِذَا أُصِيبَ وَاسَوْهُ؛ دِينُهُمُ النَّصِيحَةُ، وَخُلُقُهُمُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ؛ فَفِيمَ يَخْتَصِمُونَ؟ فَفِيمَ يَخْتَصِمُونَ؟!

الأَمَانَةُ وَالإِيمَانُ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: كُلَّمَا قَوِيَ الإِيمَانُ في القَلْبِ، كُلَّمَا حُفِظَتِ الحُقُوقُ، وَأُدِّيَتِ الأَمَانَاتُ، وَكُلَّمَا ضَعُفَ الإِيمَانُ في القَلْبِ، ضُيِّعَتِ الأَمَانَاتُ وَالحُقُوقُ.

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارَاً لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ.

وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا.

فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟

قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ.

وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ.

قَالَ: أَنْكِحُوا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا.

إِنَّهُ الإِيمَانُ، إِنَّهُ الخَوْفُ مِنْ يَوْمِ العَرْضِ على اللهِ تعالى، إِنَّهُ الحِرْصُ على بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ في الدُّنْيَا، وَذَلِكَ اسْتِعْدَادَاً لِيَوْمِ القِيَامَةِ ﴿الذي لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

رُوَيْعِيُّ غَنَمٍ مُؤْمِنٌ يُرَاقِبُ اللهَ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى زِيَادَةِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى، وَالإِيمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ، حَتَّى  نُحَافِظَ على أَمَانِ المُجْتَمَعِ، لِأَنَّ المُجْتَمَعَ اليَوْمَ فَقَدَ نِعْمَةَ الأَمْنِ وَالأَمَانِ بِسَبَبِ ضَعْفِ الإِيمَانِ في القُلُوبِ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: رُوَيْعِيُّ غَنَمٍ في صَحْرَاءٍ، إيمَانُهُ دَفَعَهُ إلى حِفْظِ الأَمَانَةِ وَرِعَايَتِهَا حَقَّ الرِّعَايَةِ، رُوَيْعِيُّ غَنَمٍ في الصَّحْرَاءِ يَخَافُ اللهَ تعالى وَاليَوْمَ الآخِرَ، يَخَافُ ذَاكَ اليَوْمَ الذي يُخْتَمُ فِيهِ على الأَفْوَاهِ، وَتَتَكَلَّمُ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

روى البيهقي عَنْ نَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ ابْنُ عُمَرَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْـمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَصْحَابُ لَهُ، وَوَضَعُوا سَفْرَةً لَهُ، فَمَرَّ بِهِمْ رَاعِي غَنَمٍ.

قَالَ: فَسَلَّمَ.

فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَلُمَّ يَا رَاعِي، هَلُمَّ، فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ.

فَقَالَ لَهُ: إِنِّي صَائِمٌ.

فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَتَصُومُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الْحَارِّ شَدِيدٍ سَمُومُهُ وَأَنْتَ فِي هَذِهِ الْجِبَالِ تَرْعَى هَذَا الْغَنَمَ؟

فَقَالَ لَهُ: أَيْ وَاللهِ أُبَادِرُ أَيَّامِي الْخَالِيَةَ.

فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ يُرِيدُ يَخْتَبِرُ وَرَعَهُ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ هَذِهِ فَنُعْطِيكَ ثَمَنَهَا وَنُعْطِيكَ مِنْ لَحْمِهَا فَتُفْطِرَ عَلَيْهِ؟

فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي بِغَنَمٍ، إِنَّهَا غَنَمُ سَيِّدِي.

فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا عَسَى سَيِّدُكَ فَاعِلَاً إِذَا فَقْدَهَا، فَقُلْتَ: أَكْلَهَا الذِّئْبُ.

فَوَلَّى الرَّاعِي عَنْهُ وَهُوَ رَافِعٌ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَيْنَ اللهُ.

قَالَ: فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يُرَدِّدُ قَوْلَ الرَّاعِي وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ الرَّاعِي: فَأَيْنَ اللهُ؟

قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ الْـمَدِينَةَ بَعَثَ إِلَى مَوْلَاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ الْغَنَمَ وَالرَّاعِي فَأَعْتَقَ الرَّاعِيَ، وَوَهَبَ لَهُ الْغَنَمَ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى زِيَادَةِ الإِيمَانِ، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُعِيدَ إِلَيْنَا نِعْمَةَ الأَمْنِ وَالأَمَانِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ «رَجُلَاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ.

فَقَالَ: كَفَى بِاللهِ شَهِيدَاً.

قَالَ: فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ.

قَالَ: كَفَى بِاللهِ كَفِيلَاً.

قَالَ: صَدَقْتَ؛ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبَاً يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبَاً، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانَاً أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلَاً، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللهِ كَفِيلَاً، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدَاً، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللهِ شَهِيدَاً، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبَاً أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ؛ ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبَاً يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ.

فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبَاً قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبَاً، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ.

ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا زِلْتُ جَاهِدَاً فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبَاً قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ.

قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟

قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبَاً قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ.

قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدَاً.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَوْمَ ضَعُفَ الإِيمَانُ في قُلُوبِ النَّاسِ ضَاعَتِ الأَمَانَةُ، وَلَا خَيْرَ في مُجْتَمَعٍ ضُيِّعَتْ فِيهِ الأَمَانَةُ بِسَبَبِ ضَعْفِ الإِيمَانِ، فَهَلْ مِنْ عَوْدَةٍ لِتَجْدِيدِ الإِيمَانِ وَتَقْوِيَتِهِ.

اللَّهُمَّ زِدْ في إِيمَانِنَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 21/ رمضان /1437هـ، الموافق: 26/ حزيران / 2016م