497ـ خطبة الجمعة: ما رأينا خيراً في هذا التنازع

.

497ـ خطبة الجمعة: ما رأينا خيراً في هذا التنازع

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تعالى هَذَا القُرْآنَ العَظِيمَ في شَهْرِ رَمَضَانَ، في لَيْلَةِ القَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾. وَلَيْلَةُ القَدْرِ هِيَ اللَّيْلَةُ التي يُقَدِّرُ اللهُ تعالى فِيهَا مَقَادِيرَ السَّنَةِ، قَالَ تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْـمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرَاً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

ثمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَزَلَ القُرْآنُ العَظِيمُ مُفَرَّقَاً على قَلْبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَتَنَزَّلُ على حَسَبِ الوَقَائِعِ التي وَقَعَتْ، فَكَانَ إِنْزَالُ القُرْآنِ العَظِيمِ في شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَامَةً وَدَلِيلَاً على اصْطِفَاءِ اللهِ تعالى لِهَذَا الشَّهْرِ؛ وَنُزُولُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا في لَيْلَةِ القَدْرِ دِلَالَةٌ أَيْضَاً على عَظِيمِ فَضْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ.

اجْتِهَادُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: عُمُرُنَا يَمُرُّ كَمَا تَمُرُّ هَذِهِ الأَيَّامُ وَالأَشْهُرُ، وَلَا يَبْقَى للإِنْسَانِ إلا عَمَلُهُ الصَّالِحُ، وَهَذِهِ الأَيَّامُ أَيَّامٌ مُبَارَكَاتٌ، وَلَيَالٍ فَاضِلَاتٌ، لِذَا جَعَلَ اللهُ تعالى العِبَادَةَ فِيهَا أَعْظَمَ مِنَ العِبَادَةِ في غَيْرِهَا، فَالعِبَادَةُ في لَيْلَةِ القَدْرِ تَرْبُو على ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، فَالسَّعِيدُ مَنْ وُفِّقَ لِقِيَامِهَا حَقَّ القِيَامِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الـعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ. رواه الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُومُ وَيَنَامُ بَعْضَ اللَّيْلِ، إلا في العَشْرِ الأَخِيرِ فَقَدْ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُوقِظُ أَهْلَهُ.

روى الإمام البخاري عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ! مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ (يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ حَتَّى يُصَلِّينَ) رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الآخِرَةِ».

دَعُوا الخُصُومَاتِ وَالمُجَادَلَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ:

يَا عِبَادَ اللهِ: روى الإمام البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَإِنَّهَا رُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرَاً لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالخَامِسَةِ».

يَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا كَانَتْ مُجَرَّدُ المُلَاحَاةِ وَالمُجَادَلَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رُفِعَتْ عَلَامَةُ لَيْلَةِ القَدْرِ في تِلْكَ السَّنَةِ بِسَبَبِهِمَا، فَكَيْفَ إِذَا سَاءَتِ العَلَاقَاتُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ إلى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ؟ فَكَيْفَ إِذَا وَصَلَ الأَمْرُ إلى انْتِهَاكِ الحُرُمَاتِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: كُلَّمَا ازْدَادَ الإِنْسَانُ قُرْبَاً مِنَ اللهِ تعالى وَمِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا ازْدَادَ تَعْظِيمَاً وَإِكْرَامَاً لِحُقُوقِ المُسْلِمِينَ؛ وَأَمَّا إِذَا ابْتَعَدَ العَبْدُ عَنْ كِتَابِ اللهِ تعالى وَعَنْ هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ دِمَاءَ المُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ تَكُونُ رَخِيصَةً عِنْدَهُ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَا نَحْنُ اليَوْمَ في اليَوْمِ السَّادِسِ وَالعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ، وَهَذِهِ هِيَ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالعِشْرِينَ قَدْ أَقْبَلَتْ عَلَيْنَا، وَنَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ، فَهَلْ بِإِمْكَانِنَا وَنَحْنُ نَعِيشُ في بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَرَبُّنَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُنَا وَاحِدَةٌ، أَنْ نَصْطَلِحَ فِيمَا بَيْنَ بَعْضِنَا بَعْضَاً، وَأَنْ نُعِيدَ الحُقُوقَ لِأَصْحَابِهَا؟

هَلْ بِإِمْكَانِ الحَاكِمِ أَنْ يُعْطِيَ المَحْكُومَ حَقَّهُ؟ هَلْ بِإِمْكَانِ الزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَ زَوْجَتَهُ حَقَّهَا، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ؟ وَهَلْ بِإِمْكَانِ كُلِّ وَاحِدٍ فِينَا أَنْ يُعْطِيَ الآخَرِينَ الحَقَّ الذي عَلَيْهِ؟

هَلْ بِإِمْكَانِنَا أَنْ نَجْعَلَ شِعَارَنَا اليَوْمَ التَّغَافُرَ لَا التَّنَافُرَ؟ وَهَلْ بِإِمْكَانِنَا أَنْ نَلْتَزِمَ قَوْلَ اللهِ تعالى:﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؟

مَا أَرْوَعَ المُجْتَمَعَ إِذَا تَصَافَحَ أَفْرَادُهُ، وَتَغَافَرُوا، وَتَسَامَحُوا بِدُونِ عِتَابٍ، مِنْ بَعْدَ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ.

يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ مَا رَأَيْنَا خَيْرَاً في هَذَا التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، مَا رَأَيْنَا خَيْرَاً في هَذَا الاقْتِتَالِ، حَالُنَا اليَوْمَ سَرَّ عَدُوَّنَا وَأَحْزَنَ المُسْلِمِينَ الصَّادِقِينَ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرُدَّنَا إلى دِينِهِ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 26/ رمضان /1437هـ، الموافق: 1/تموز / 2016م