57-دروس رمضانية 1437هـ:قيام الليل شعار الصالحين

.

دروس رمضانية 1437هـ

57ـ قيام الليل شعار الصالحين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: من لا يَغتَنِمُ وَقتَهُ ويَومَهُ بالخَيرِ، ويَقُولُ: غَدَاً أو بَعدَ غَدٍ سَأَفعَلُ وأغتَنِمُ فَهُوَ خَاسِرٌ، لأنَّهُ لِكُلِّ وَقتٍ عَمَلٌ جَدِيدٌ، ورَحِمَ اللهُ تعالى الإمامَ الشَّافِعِيَّ إذْ يَقُولُ: الوَقتُ كالسَّيفِ إن لم تَقطَعْهُ قَطَعَكَ، ونَفسُكَ إن لم تَشْغَلْهَا بالخَيرِ شَغَلَتْكَ بالشَّرِّ.

ويَقُولُ الإمامُ الحَسَنُ البَصرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: كُلُّ يَومٍ تُشرِقُ فِيهِ شَمسٌ يُنَادِي هذا اليَومُ: أنا يَومٌ جَدِيدٌ، وعلى عَمَلِكَ شَهِيدٌ، فَاغتَنِمنِي فَإِنِّي لا أَعُودُ إلى يَومِ القِيَامَةِ.

ويَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ، إِنَّمَا أَنتَ أنفَاسٌ وأَيَّامٌ، فإذا ذَهَبَ نَفَسُكَ ويَومُكَ فقد ذَهَبَ بَعضُكَ، ويُوشِكُ إذا ذَهَبَ البَعضُ أن يَذهَبَ الكُلُّ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: من جُملَةِ الزَّمَنِ اللَّيلُ، حَيثُ جَعَلَهُ اللهُ تعالى مَحَلَّاً لِمُضَاعَفَةِ الجَزَاءِ، واستِجَابَةِ الدُّعَاءِ، إذا خَمَدَتِ الأصوَاتُ، ونَامَتِ العُيُونُ، قَامَ المُحِبُّونَ لِيَلتَقُوا مَعَ رَبِّهِم في سَاعَةٍ لا يُوَافِقُها مُسلِمٌ يَسأَلُ اللهَ تعالى خَيراً إلا أَعطَاهُ إيَّاهُ.

أقوَامٌ عَاشُوا عَيشَ السُّعَدَاءِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: النَّاسُ يَبحَثُونَ عن السَّعَادَةِ، وأَوَّلُ من يَفقِدُ السَّعَادَةَ هوَ من التَمَسَهَا في مَعصِيَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَأَصحَابُ المَعَاصِي في الحَقِيقَةِ لَيسُوا سُعَدَاءَ، وإنْ أظهَرُوا الفَرَحَ والسُّرُورَ والانشِرَاحَ، واللهِ لو شَاهَدتَ قُلُوبَهُم واطَّلَعتَ عَلَيهِا لَرَأَيتَها كَمَرَاجِلِ النِّيرَانِ، لا تَخبُو في وَقتٍ من الأوقَاتِ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: السُّعَدَاءُ حَقَّاً من أَذَاقَهُمُ اللهُ تعالى طَعمَ مَحَبَّتِهِ، ونَعَّمَهُم بِلَذِيذِ مُنَاجَاتِهِ، وطَهَّرَ سَرَائِرَهُم بِحُسنِ مُرَاقَبَتِهِ، هؤلاءِ السُّعَدَاءُ إذا ضَاقَ صَدْرُ أَحَدِهِم بِمُصِيبَةٍ من المَصَائِبِ، أو كَانَت لَهُ حَاجَةٌ من الحَاجَاتِ، بَسَطَ يَدَهُ في ظُلمَةِ اللَّيلِ سَائِلاً مَولاهُ، وسَجَدَ بَينَ يَدَيِ اللهِ عزَّ جلَّ، وَأَنزَلَ حَوَائِجَهُ في بَابِ مَولاهُ، وأَحسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، وأَيقَنَ بأَنَّ رَبَّنَا عزَّ وجلَّ لا تَختَلِطُ عَلَيهِ الأصوَاتُ، ولا يَتَبَرَّمُ من دُعَاءِ الدَّاعِينَ، ولا من إلحَاحِ المُلِحِّينَ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: السُّعَدَاءُ حَقَّاً من انطَبَقَ عَلَيهِم قَولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.

قِيَامُ اللَّيلِ شِعَارُ الصَّالِحِينَ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: قِيَامُ اللَّيلِ شِعَارُ الصَّالِحِينَ، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾. ويَقُولُ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾.

تَرغِيبُ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِ اللَّيلِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لقد رَغَّبَ سَيِّدُنا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ بقِيَامِ اللَّيلِ، من جُملَةِ ذلكَ ما رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».

وروى الحاكم عن سَهلِ بنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: جَاءَ جِبرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وأَحبِبْ مَن أَحبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، واعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ.

ثمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، شَرَفُ المُؤمِنِ قِيَامُ اللَّيلِ، وعِزُّهُ استِغنَاؤُهُ عن النَّاسِ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: البَابُ مَفتُوحٌ في كُلِّ لَيلَةٍ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، ولِحَطِّ الخَطِيئَاتِ، فما بَالُنَا نُقَصِّرُ؟

روى الحاكم عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرو رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا من بَاطِنِهَا، وبَاطِنُهَا من ظَاهِرِهَا».

فَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الأشعَرِيُّ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قَائِمَاً وَالنَّاسُ نِيَامٌ».

وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عن عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَلا إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ، رَجُلٍ قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ مِنْ فِرَاشِهِ وَلِحَافِهِ وَدِثَارِهِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى صَلاةٍ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلائِكَتِهِ: مَا حَمَلَ عَبْدِي هَذَا عَلَى مَا صَنَعَ؟

فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا رَجَاءَ مَا عِنْدَكَ، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدَكَ.

فَيَقُولُ: فَإِنَّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا وَأَمَّنْتُهُ مِمَّا خَافَ.

وَرَجُلٍ كَانَ فِي فِئَةٍ فَعَلِمَ مَا لَهُ فِي الْفِرَارِ، وَعَلِمَ مَا لَهُ عِنْدَ اللهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَيَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: مَا حَمَلَ عَبْدِي هَذَا عَلَى مَا صَنَعَ؟

فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا رَجَاءَ مَا عِنْدَكَ، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدَكَ.

فَيَقُولُ: فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا، وَأَمَّنْتُهُ مِمَّا خَافَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الزَّمَنُ لا يَتَوَقَّفُ ولا يَنتَظِرُ أَحَداً، فَإمَّا أن يُغتَنَمَ هذا الزَّمَنُ، وخَاصَّةً وَقتُ اللَّيلِ في الطَّاعَاتِ، وإمَّا أن يَضِيْعَ بِالمَعَاصِي والمُنكَرَاتِ، والسَّعِيدُ من وَفَّقَهُ اللهُ تعالى لما يُرضِيهِ عَنهُ.

روى الإمام البخاري عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ غُلَاماً شَابَّاً وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ ـ مَبنِيَّةُ الجَوانِبِ ـ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ ـ طَرَفَانِ ـ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ باللهِ مِن النَّارِ.

قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ.

فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِن اللَّيْلِ».

فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِن اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلاً.

أَسأَلُ اللهَ تعالى أن يُوَفِّقَنَا لاغتِنَامِ أنفَاسِ أعمَارِنَا في طَاعَتِهِ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 29/ رمضان /1437هـ، الموافق: 4/ تموز/ 2016م