59-دروس رمضانية 1437هـ:الضابط الشرعي لمن كان له قلب

.

دروس رمضانية 1437هـ

59ـ الضابط الشرعي لمن كان له قلب

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَفَكَّرُوا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. إِنَّهَا الضَّابِطُ الشَّرْعِيُّ ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾. مُرَاقَبَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ قِبَلِ مَوْلَانَا على كُلِّ كَلِمَةٍ نَتَكَلَّمُهَا؛ كُلُّ كَلِمَةٍ مَكْتُوبَةٌ، وَكُلُّ حَرَكَةٍ مَحْسُوبَةٌ، في كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، وفي كُلِّ حَالٍ، وفي أَيِّ مَكَانٍ.

تَكَلَّمْ مَا تَشَاءُ، أَقْلِلْ أَو أَكْثِرْ، وَلَكِنِ اعْلَمْ أَنَّ هُنَاكَ رَقِيبَاً عَلَيْكَ، يَعُدُّ عَلَيْكَ أَلْفَاظَكَ ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْـمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. وَاللهِ هَذِهِ الآيَةُ تَهُزُّ الإِنْسَانَ المُؤْمِنَ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ هَزَّاً، وَتُثِيرُ فِيهِ رَعْشَةَ الخَوْفِ مِنَ اللهِ تعالى، يَقُولُ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ: يُكْتَبُ كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُكْتَبُ قَوْلُهُ: أَكَلْتُ، شَرِبْتُ، ذَهَبْتُ، جِئْتُ، رَأَيْتُ؛ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الخَمِيسِ عُرِضَ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ، فَأَقَرَّ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ، وَأَلْقَى سَائِرَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.

التَّحْذِيرُ مِنْ خَطَرِ اللِّسَانِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ حَذَّرَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خُطُورَةِ اللِّسَانِ، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامَاً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئَاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ﴾. لَقَدْ جَعَلَنَا اللهُ تعالى على بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، وَأَعْلَمَنَا أَنَّ هُنَاكَ كَتَبَةً حَافِظِينَ، يَعْلَمُونَ مَا نَفْعَلُ، وَمِنْ خِلَالِ الكَلَامِ يُعْرَفُ الإِنْسَانُ أَنَّهُ مِنَ الأَبْرَارِ أَمْ مِنَ الفُجَّارِ؟

كَمَا رَغَّبَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِقِلَّةِ الكَلَامِ، وَخَاصَّةً في النَّجْوَى، فَقَالَ تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَنَا في قِلَّةِ الكَلَامِ إلا في الخَيْرِ، لِأَنَّهُ مَحْسُوبٌ عَلَيْنَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرَاً أَوْ لِيَصْمُتْ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

يَقُولُ الإِمَامَ النُّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فَإِنِ اسْتَوَى عِنْدَكَ الوَجْهَانِ في الكَلَامِ وَلَمْ تَدْرِ أَفِي الكَلَامِ خَيْرٌ أَمْ لَا؟ فَأَمْسِكْ عَنِ الكَلَامِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَرَادَ الجَنَّةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ» رواه الإمام البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَمَنْ أَرَادَ الوِقَايَةَ مِنَ النَّارِ فَلْيَكُفَّ لِسَانَهُ عَنِ المُحَرَّمَاتِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» وَأَشَارَ إلى لِسَانِهِ.

فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» رواه الترمذي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: أَهْلُ الإِيمَانِ الفَالِحِين لَا يَهْجُرُونَ الحَرَامَ مِنَ الكَلَامِ فَقَطْ، بَلْ يَهْجُرُونَ اللَّغْوَ، قَالَ تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْـمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾.

يُذْكَرُ أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كَانَ في مَرَضِ مَوْتِهِ يَئِنُّ أَنِينَاً شَدِيدَاً؛ فَسَمِعَ أَنَّ الأَنِينُ يُكْتَبُ؛ فَسَكَتَ حَتَّى فَاضَتْ رُوحُهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَأَرْضَاهُ.

يَا رَبُّ ارْزُقْنَا تَوْبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً حَتى نَلْقَاكَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 30/ رمضان /1437هـ، الموافق: 5/ تموز/ 2016م