83ـمع الصحابة وآل البيت: أَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي، وَأَعَزُّ مِنْ أَنْ أُوَازَى بِكَ

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

83ـ أَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي، وَأَعَزُّ مِنْ أَنْ أُوَازَى بِكَ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الصَّحَابَةُ وَآلُ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، وَشَهِدَ اللهُ تعالى لَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾.

مِنْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ فَتَى الكُهُولِ، الذي كَانَ لَهُ لِسَانٌ سَؤُولٌ، وَقَلْبٌ عَقُولٌ، سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، الذي نَالَ شَرَفَ الصُّحْبَةِ، حَيْثُ وُلِدَ قَبْلَ الهجْرَةِ بِثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، وَتُوُفِّيَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لَهُ مِنَ العُمُرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ، لَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ حَمَلَتْهُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَحَنَّكَهُ بِرِيقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المُبَارَكُ الطَّاهِرُ، وَدَخَلَتْ مَعَهُ التَّقْوَى وَالحِكْمَةُ؛ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

لَقَدْ كَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَوَّامَاً قَوَّامَاً، مُسْتَغْفِرَاً بِالأَسْحَارِ، بَكَّاءً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى خَدَّدَ الدَّمْعُ خَدَّيْهِ.

وَمَعَ تَقْوَاهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَفِظَ للمُسْلِمِينَ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَلْفَاً وَسِتَّمَائَةً وَسِتِّينَ حَدِيثَاً أَثْبَتَهَا الإِمَامَانِ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ رَحِمَهُمَا اللهُ تعالى في صَحِيحَيْهِمَا.

«اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» «اللَّهُمَّ آتِهِ الْحِكْمَةَ»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ دَعَا لَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُفَقِّهَهُ اللهُ تعالى في الدِّينِ، وَأَنْ يُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ، وَأَنْ يُؤْتِيَهُ الحِكْمَةَ.

روى الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَوَضَعَتْ لَهُ وَضُوءَاً، فَقَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ: وَضَعَ لَكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْعَبَّاسِ وَضُوءَاً.

فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ».

وَجَاءَ في حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَى سِقَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَشَرِبَ قَائِمَاً، قُلْتُ: وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقُمْتُ وَتَوَضَّأَتُ وَشَرِبْتُ قَائِمَاً، ثُمَّ صَفَفْتُ خَلْفَهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ لِأُوَازِي بِهِ أَقُومُ عَنْ يَمِينِهِ، فَأَبَيْتُ.

فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَكُونَ وَازَيْتَ بِي؟».

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي، وَأَعَزُّ مِنْ أَنْ أُوَازَى بِكَ.

فَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِهِ الحِكْمَةَ».

مَوْقِفٌ مِنْ مَوَاقِفِ حِكْمَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اسْتَجَابَ اللهُ تعالى دُعَاءَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَآتَاهُ اللهُ تعالى الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ، فَفَاقَ أَسَاطِينَ العُلَمَاءِ وَالحُكَمَاءِ؛ مِنْ مَوَاقِفِ حِكْمَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

جَاءَ في مَوَارِدِ الظَّمْآنِ: لَمَّا اعْتَزَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَخَذَلُوهُ فِي نِزَاعِهِ مَعَ مُعَاوَيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بن عَبَّاسٍ لِعَلِّي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ائْذَنْ لِي يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَنْ آتِي الْقَوْمَ وَأَكَلِّمَهُمْ.

فَقَالَ: إِنِّي أَتَخَوَّفَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ.

فَقَالَ: كَلَّا إِنْ شَاءَ اللهُ.

ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرَ قَوْمَاً أَشَدَّ اجْتِهَادَاً مِنْهُمْ فِي العِبَادَةِ، فَقَالُوا: مَرْحَبَاً بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا جَاءَ بِكَ؟

فَقَالَ: جِئْتُ أُحَدِّثُكُمْ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُحَدِّثُوهُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَسْمَعُ مِنْكَ.

فَقَالَ: أَخْبِرُونِي مَا تَنْقِمُونَ عَلَى ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجِ ابْنَتِهِ وَأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ.

قَالُوا: نَنْقِمُ عَلَيْهِ ثَلاثَةَ أُمُورٍ؛ أَوَّلُهَا أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ، وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَاتَلَ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَأْخُذْ غَنَائِمَ وَلا سَبَايَا، وَثَالِثُهَا أَنَّهُ مَحَا عَنْ نَفْسِهِ لَقبَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَعَ أَنَّ المُسْلِمِينَ قَدْ بَايَعُوهُ وَأَمَّرُوهُ.

فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ، إِنْ أَسْمَعْتُكُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ مَا لَا تُنْكِرُونَهُ، أَفَتَرْجُعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ.

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: أَمَّا قَوْلُكُمْ أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللهِ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدَاً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾. أَنْشُدُكُمْ اللَه، أَفَحُكْمَ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ، أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبْعُ دِرْهَمٍ؟

فَقَالُوا: بَلْ فِي حَقْنِ دِمَاءِ المُسْلِمِينَ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ.

فَقَالَ: أَخَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ؟

قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ عَلِيَّاً قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ ـ أَيْ لَمْ يَأْخُذْ سَبَايَا كَمَا سَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَفَكُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْبُوا أُمَّكُمْ عَائِشَةَ كَمَا تُسْتَحَلُّ السَّبَايَا؟! فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمِّكُمْ كَفَرْتُمْ أَيْضَاً؛ فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى يَقُولُ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾. فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ مَا شِئْتُمْ.

ثُمَّ قَالَ: أَخَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ؟

قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ عَلِيَّاً مَحَا عَنْ نَفْسِهِ لَقَبَ إمْرَةَ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَبَ مِنَ المُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَكْتُبُوا فِي الصُّلْحِ الذِي عَقَدَهُ مَعَهُمْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، قَالُوا: لَوْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ؛ فَنَزَلَ عِنْدَ طَلَبِهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنِّي لِرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي». فَهَلْ خَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ؟

فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

فَكَانَ مِنْ ثَمَرَةِ هَذَا اللَّقَاءِ وَمَا وَفَّقَ اللهُ فِيهِ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ مِنْ حِكْمَةٍ وَحُجَّةٍ أَنْ عَادَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفَاً إِلى صُفُوفِ عَلِيٍّ، وَأَصَرَّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ عَلَى خُصُومَتِهِمْ لِعَليٍّ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوقِظَنَا مِنْ غَفْلَتِنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا ذُرِّيَّةً صَالِحَةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً كَسَيِّدِنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في الفِقْهِ وَالحِكْمَةِ وَالتَّأْوِيلِ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 2/ ربيع الأول /1438هـ، الموافق: 1/كانون الأول / 2016م