86- مع الصحابة وآل البيت :توبة زكاها الله تعالى في القرآن العظيم

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

86ـ توبة زكاها الله تعالى في القرآن العظيم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْبَةَ على جَمِيعِ خَلْقِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعَاً أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحَاً﴾.

وَهَذِهِ التَّوْبَةُ هِيَ لُطْفٌ وَفَضْلٌ وَمِنَّةٌ مِنَ اللهِ تعالى على خَلْقِهِ، وَهِيَ إِقَالَةٌ للعَثَرَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، يُقِيلُ بِهَا اللهُ تعالى عَثَرَاتِ عِبَادِهِ الذينَ فَرَّطُوا في جَنْبِ اللهِ تعالى.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ فَتَحَ اللهُ تعالى لِخَلْقِهِ بَابَاً مِنْ قِبَلِ المَغْرِبِ لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَبِهَذَا تُتَاحُ الفُرْصَةُ لِكُلِّ مَنْ أَخْطَأَ وَأَذْنَبَ أَنْ يَتُوبَ إلى اللهِ تعالى، وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَبِالتَّوْبَةِ يَعُودُ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ؛ وَهَذِهِ التَّوْبَةُ على ثَلَاثِ مَرَاحِلَ:

المَرْحَلَةُ الأُولَى: تَوْبَةُ اللهِ تعالى على العَبْدِ، حَيْثُ شَرَعَ اللهُ تعالى لَهُ التَّوْبَةَ، وَقَذَفَ في قَلْبِهِ نُورَ التَّوْبَةِ لِيَرْجِعَ عَنْ ذَنْبِهِ، وَلِيَعُودَ إلى اللهِ تعالى.

المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَوْبَةُ العَبْدِ وَاسْتِغْفَارُهُ وَرُجُوعُهُ عَمَّا فَرَّطَ في جَنْبِ اللهِ تعالى، وَنَدَمُهُ على مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَعَزِيمَتُهُ على أَنْ لَا يَعُودَ إلى الذَّنْبِ مُطْلَقَاً، وَإِرْجَاعُهُ الحَقَّ إلى أَصْحَابِهِ وَمُسْتَحِقِّيهِ مِنَ العِبَادِ؛ وَهَذِهِ المَرْحَلَةُ هِيَ مَرْحَلَةُ التَّكْلِيفِ التي يُثِيبُ اللهُ تعالى عَلَيْهَا العَبْدَ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ.

المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ قَبُولُ التَّوْبَةِ مِنَ اللهِ تعالى، وَهَذَا أَمْرٌ أَوْجَبَهُ اللهُ تعالى على نَفْسِهِ مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ على خَلْقِهِ، قَالَ تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾.

فَالمَرْحَلَةُ الأُولَى وَالثَّالِثَةُ مِنْ فَضْلِ اللهِ تعالى على خَلْقِهِ، حَيْثُ شَرَعَ لَهُمُ التَّوْبَةَ، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لَهَا، وَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ؛ وَأَمَّا المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ المَرْحَلَةُ التي كَلَّفَ اللهُ تعالى بِهَا عِبَادَهُ الخَطَّائِينَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ الغَنِيُّ الجَوَادُ الكَرِيمُ الحَمِيدُ، الذي لَا يُسأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، تَفَضَّلَ على خَلْقِهِ بِتَشْرِيعِ التَّوْبَةِ، وَوَعَدَهُمْ بِالقَبُولِ إِذَا صَدَقُوا في تَوْبَتِهِمْ مَهْمَا كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامَاً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانَاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحَاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورَاً رَحِيمَاً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابَاً﴾.

تَوْبَةٌ زَكَّاهَا اللهُ تعالى في القُرْآنِ العَظِيمِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ، وَمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ، فَإِنَّهُ سَيَجِدُ تَوْبَةً زَكَّاهَا اللهُ تعالى في القُرْآنِ العَظِيمِ، ثمَّ أَمَرَنَا أَنْ نَكُونَ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ التَّائِبِينَ لَعَلَّنَا أَنْ نَكُونَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾. ثمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَادِيَاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. هَؤُلَاءِ الذينَ صَدَقُوا في تَوْبَتِهِمْ للهِ تعالى.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَثِيرٌ مِنَّا مَنْ يَتُوبُ إلى اللهِ تعالى، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ صَادِقٍ في تَوْبَتِهِ، وَيَتَمَادَى في خَطَئِهِ وَزَلَّتِهِ، وَيَتَنَاسَى أَنَّ اللهَ تعالى يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ، وَيَتَنَاسَى بِأَنَّ اللهَ تعالى لَيْسَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَفْعَلُ الظَّالِمُونَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: التَّوْبَةُ التي زَكَّاهَا اللهُ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ هِيَ تَوْبَةُ الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّادِقِينَ حِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ.

يَقُولُ سَيِّدُنَا كَعْبٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَ تَوْبَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ: وَاللهِ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أُنْزِلَ الوَحْيُ: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾. رواه الإمام البخاري.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سِيرَةُ سَيِّدِنَا كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَبْرَزِ النَّمَاذِجِ الدَّالَّةِ على أَثَرِ الإِيمَانِ في تَكْوِينِ الرِّجَالِ، وَصَقْلِ ضَمَائِرِهِمْ، وَتَوْجِيهِ أَخْلَاقِهِمْ، وَشَحْذِ هِمَمِهِمْ، وَمُجَاهَدَةِ أَهْوَائِهِمْ، وَكَبْحِ نَزَوَاتِهِمْ، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تعالى في الصَّغِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾

وَصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ: «مَثَلُ المُؤْمِنِ وَمَثَلُ الْإِيمَانِ، كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي آخِيَّتِهِ (الوَتَدُ الذي تُشَدُّ بِهِ الدَّابَّةُ) يَجُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى آخِيَّتِهِ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَمَثَلُ المُؤْمِنِ وَمَثَلُ الإِيمَانِ كَمَثَلِ الفَرَسِ في آخِيَّتِهِ (مَا يُشَدُّ بِهِ الفَرَسُ مِنْ وَتَدٍ وَغَيْرِهِ) وَالمُرَادُ بِالإِيمَانِ هُنَا شُعَبُ الإِيمَانِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَوَامِرِ، فَكَمَا أَنَّ الفَرَسَ يَبْعُدُ عَنْ آخِيَّتِهِ ثمَّ يَعُودُ، فَكَذَلِكَ المُؤْمِنُ قَدْ يَتْرُكُ بَعْضَ شُعَبِ الإيمَانِ، ثمَّ يَتَدَارَكُ مَا فَاتَ مِنْهُ، وَيَنْدَمُ على ما فَعَلَ مِن مُخَالَفَاتٍ وَتَقْصِيرٍ.

فَكَانَ سَيِّدُنَا كَعْبٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ نَمُوذَجَاً حَيَّاً لِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، وَلِهَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.

وَنَأْتِي إلى قِصَّةِ صِدْقِ تَوْبَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الدَّرْسِ القَادِمِ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ تَوْبَةً صَادِقَةً كَتَوْبةِ سَيِّدِنَا كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 23/ ربيع الأول /1438هـ، الموافق: 22/كانون الأول / 2016م