524ـ خطبة الجمعة: آخر موعظة في القرآن العظيم

 

524ـ خطبة الجمعة: آخر موعظة في القرآن العظيم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ وَعَظَنَا اللهُ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ بِمَوَاعِظَ قَرَعَ بِهَا القُلُوبَ، وَنَوَّرَ بِهَا السُّبُلَ وَالدُّرُوبَ، لَعَلَّ قُلُوبَ العِبَادِ تَرْجِعُ وَتُنِيبُ إلى اللهِ تعالى عَلَّامِ الغُيُوبِ.

لَقَدْ وَعَظَ اللهُ تعالى عِبَادَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ بِمَوَاعِظَ تَهْدِي العَبْدَ مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى، وَمِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، وَتَنْقُلُهُ مِنَ العَذَابِ إلى الرَّحْمَةِ وَالنَّعِيمِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ مِنْ هَذِهِ المَوَاعِظِ مَوْعِظَةٌ خَتَمَ اللهُ تعالى بِهَا مَوَاعِظَ القُرْآنِ العَظِيمِ، فَكَانَتْ مَوْعِظَةً تَقْرَعُ القُلُوبَ قَرْعَاً، وَتُذَكِّرُ كُلَّ عَبْدٍ ـ وَكُلُّ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَبْدٌ للهِ تعالى شَاءَ أَمْ أَبَى ـ بِالوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى الوَاحِدِ القَهَّارِ قَيُّومِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، الذي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ، هَذِهِ المَوْعِظَةُ هِيَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

آخِرُ مَوْعِظَةٍ في القُرْآنِ العَظِيمِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ هِيَ آخِرُ مَوَاعِظِ القُرْآنِ الكَرِيمِ كَمَا قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ، وَهِيَ آخِرُ آيَةٍ كَرِيمَةٍ نَزَلَتْ على قَلْبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، آيَةٌ مَا عَاشَ بَعْدَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَيَّامَاً قَلِيلَةً ثمَّ الْتَحَقَ بالرَّفِيقِ الأَعْلَى.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الآيَةُ ذَكَّرَتِ العِبَادَ بِاليَوْمِ المَشْهُودِ، وَاللِّقَاءِ المَوْعُودِ، ذَكَّرَتِ العِبَادَ بِيَوْمٍ لَا يُغْنِي فِيهِ وَالِدٌ عن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عن وَالِدِهِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمَاً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئَاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ﴾.

مَشْهَدَانِ عَظِيمَانِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الآيَةُ العَظِيمَةُ الوَاعِظَةُ التي خُتِمَتْ بِهَا مَوَاعِظُ القُرْآنِ العَظِيمِ، أُذَكِّرُ بِهَا نَـفْسِي، وَأُذَكِّرُكُمْ بِهَا، وَأُذَكِّرُ بِهَا خَاصَّةً مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ ظُلْمَ الآخَرِينَ، فَسَفَكَ الدِّمَاءَ، وَقَتَلَ الأَبْرِيَاءَ، وَسَلَبَ الأَمْوَالَ؛ فَيَا سَالِبَ الأَمْوَالِ، وَيَا قَاتِلَ الأَبْرِيَاءِ، وَيَا سَافِكَ الدِّمَاءِ، وَيَا عِبَادَ اللهِ جَمِيعَاً بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ، تَذَكَّرُوا هَذَيْنِ المَشْهَدَيْنِ:

المَشْهَدُ الأَوَّلُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَّا المَشْهَدُ الأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ﴾. هَذَا اليَوْمُ يَوْمُ الرُّجُوعِ إلى اللهِ تعالى الذي نَسِينَاهُ، وَهَذَا المَوْقِفُ الذي هُوَ حَقٌّ، حَيْثُ آمَنَّا بِهِ وَصَدَّقْنَاهُ، هَذَا اليَوْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَذَابَاً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِسْكَاً للخِتَامِ، قَالَ تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾.

هَذَا اليَوْمُ هُوَ اليَوْمُ الآخِرُ، فَلَا يَوْمَ بَعْدَهُ، وَلَا يَوْمَ مِثْلَهُ في الشَّدَائِدِ، يَوْمٌ عَظِيمٌ، يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ جَمِيعَاً، أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ، في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُبْصِرُهُمُ النَّاظِرُ، وَيَسْمَعُهُمُ الدَّاعِي، يَوْمٌ تَغُصُّ فِيهِ الحَنَاجِرُ وَ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾.

هَذَا اليَوْمُ يَقِفُ فِيهِ الجَمِيعُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى الوَاحِدِ القَهَّارِ الذي يُنَادِي: ﴿لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ﴾. فَلَا يُجِيبُ أَحَدٌ؛  فَيَقُولُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾.

هَذَا اليَوْمُ الذي أَقَضَّ مَضَاجِعَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ وَالأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَـ﴿كَانُوا قَلِيلَاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.

هَذَا اليَوْمُ الذي كَتَبَ فِيهِ اللهُ تعالى على كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَكُلِّ جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، وَكُلِّ حَاكِمٍ وَمَحْكُومٍ، وَكُلِّ سَيِّدٍ وَمَسُودٍ، وَكُلِّ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ، وَكُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، أَنْ يُقَادَ إلى اللهِ تعالى عَزِيزَاً أَو ذَلِيلَاً ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدَاً * وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدَاً﴾. أَنْ يُقَادَ إلى اللهِ تعالى كَرِيمَاً أَو مُهَانَاً.

المَشْهَدُ الثَّانِي:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَّا المَشْهَدُ الثَّانِي: فَقَوْلُهُ تعالى في هَذِهِ المَوْعِظَةِ: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾. هَذَا المَشْهَدُ اسْتَحْضِرُوهُ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾. وَقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾. نُسِيَتِ الأَنْسَابُ، وَمَضَتِ الأَحْسَابُ، وَالكُلُّ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّ الأَرْبَابِ.

وَقَفَ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى الوَاحِدِ القَهَّارِ، حَيْثُ تَبَدَّدَتِ الأَوْهَامُ، وَذَهَبَتِ الأَحْلَامُ، وَاجْتَمَعَ الخُصُومُ، اجْتَمَعَ القَاتِلُ وَالمَقْتُولُ، وَاجْتَمَعَ السَّارِقُ مَعَ المَسْرُوقِ، وَاجْتَمَعَ الظَّالِمُ مَعَ المَظْلُومِ، وَنُـشِرَتِ الدَّوَاوِينُ، وَنُصِبَتِ المَوَازِينُ، أَمَامَ اللهِ تعالى رَبِّ العَالَمِينَ ﴿يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾. فَهَنِيئَاً لَكَ يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، وَيَا حَسْرَةً عَلَيْكَ يَا أَيُّهَا الظَّالِمُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جَعَلَنَا اللهُ تعالى على بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، وَنَحْنُ في دَارِ التَّكْلِيفِ، فَهَلْ مِنْ مُغْتَنِمٍ لِمَا تَبَقَّى مِنْ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، لِيَتُوبَ إلى اللهِ تعالى، وَيُعِيدَ الحُقُوقَ إلى أَصْحَابِهَا؟

لَعَلَّ مَنْ ظَلَمَ يَتَذَكَّرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾. فَعَسَى أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَنْدَمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَهُ النَّدَمُ.

وَلَعَلَّ مَنْ ظُلِمَ يَتَذَكَّرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. فَيَرْضَى بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ، وَيَصْبِرُ وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلى اللهِ تعالى.

اللَّهُمَّ لَا تُخْزِنَا يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 24/ ربيع الأول /1438هـ، الموافق: 23/كانون الأول / 2016م