529ـ خطبة الجمعة: سلامة القلب من لوازم التقوى

 

529ـ خطبة الجمعة: سلامة القلب من لوازم التقوى

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: رَاحَةُ قَلْبِ المُؤْمِنِ أَنْ يَعِيشَ سَلِيمَ الصَّدْرِ، طَاهِرَ القَلْبِ، مُبَرَّأً مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَأَسْبَابِ الضَّغِينَةِ وَالحِقْدِ؛ رَاحَةُ المُؤْمِنِ في أَنْ يَكُونَ حَرِيصَاً على قَلْبِهِ ـ الذي هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»ـ أَنْ لَا يَرَى فِيهِ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مَا لَا يُحِبُّ.

رَاحَةُ المُؤْمِنِ تَكُونُ في حِرْصِهِ على قَلْبِهِ الذي فِيهِ أَغْلَى شَيْءٍ عَلَيْهِ وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، وَلَنْ يَكُونَ هَذَا إِلَّا إِذَا كَانَ القَلْبُ سَلِيمَاً مِنَ الأَحْقَادِ وَالضَّغَائِنِ، عَامِرَاً بِالحُبِّ وَالوُدِّ وَالمُجَامَلَةِ الرَّقِيقَةِ اللَّطِيفَةِ وَالخُلُقِ الذي تُمْلَكُ بِهِ القُلُوبُ.

سَلَامَةُ القَلْبِ مِنْ لَوَازِمِ التَّقْوَى:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ سَلَامَةَ القَلْبِ مِنْ لَوَازِمِ التَّقْوَى، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «التَّقْوَى هَاهُنَا» كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانَاً، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ؛ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ». فَأَيْنَ تَقْوَانَا يَا عِبَادَ اللهِ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ هَذَا الحَدِيثَ الـشَّرِيفَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتْرُكِ التَّحَاسُدَ وَالتَّبَاغُضَ وَالتَّدَابُرَ، لِنَكُنْ عِبَادَاً للهِ إِخْوَانَاً، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِسَلَامَةِ قُلُوبِنَا؛ وَيَكْفِي العَبْدَ شَرَّاً أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ، وَيَتَعَدَّى عَلَيْهِ، هَذِهِ الأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَرْكُهَا مِنْ أَجْلِ سَلَامَةِ قُلُوبِنَا لِنَعِيشَ عَيْشَ السُّعَدَاءِ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، فَسَلَامَةُ القَلْبِ مِنْ صِفَاتِ المُتَّقِينَ.

وَصْفُ أَوَّلِ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ سَلَامَةَ الصَّدْرِ وَالقَلْبِ طَرِيقٌ إلى دُخُولِ جَنَّةِ الخُلْدِ مَعَ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ، قَالَ تعالى في وَصْفِ أَهْلِ الجَنَّةِ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانَاً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لَا اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَليْهِ السَّلَامُ كَانَ مَثَلَاً فَذَّاً في سَلَامَةِ صَدْرِهِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: رَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

لَا يَحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَسْمُو بِهِ الرُّتَبُ   ***   وَلَا يَنَالُ العُلَا مَنْ طَبْعُهُ الغَضَبُ

انْظُرُوا إلى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَقَدْ كَانَ مِثَالَاً فَذَّاً وَرَائِعَاً في سَلَامَةِ صَدْرِهِ نَحْوَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ فَعَلَ إِخْوَتُهُ فِيهِ مَا فَعَلُوا، وَبَعْدَ أَنْ صَارَ في مَنْزِلَةٍ يَقْدِرُ فِيهَا على الانْتِقَامِ لِأَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَظَلَمُوهُ ظُلْمَاً لَا يَكَادُ يُصَدَّقُ أَنْ يَصْدُرَ مِن أَخٍ؛ فَقَدْ أَبَى قَلْبُهُ السَّلِيمُ وَشَخْصِيَّتُهُ العَظِيمَةُ التي تَبْحَثُ عَنْ رِضَا رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْتَقِمَ وَيَثْأَرَ لِنَفْسِهِ، فَوَفَّى الكَيْلَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. عَفَا عَنْهُمْ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللهَ تعالى لَهُمْ؛ وَلِمَ لَا، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؟

بَلِ الأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ الْتَمَسَ لَهُمُ العُذْرَ فِيمَا فَعَلُوهُ، فَقَالَ لِأَبِيهِ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقَّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: رَاحَتُنَا التي نَنْشُدُهَا تَكْمُنُ في سَلَامَةِ قُلُوبِنَا، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الحَرْبُ الـضَّرُوسُ التي أَحْرَقَتِ الأَخْضَرَ وَاليَابِسَ، وَصَارَتْ دَرْسَاً لِجَمِيعِ دُوَلِ العَالَمِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ عَقْلٌ، أَنْ تَكُونَ لَنَا نَحْنُ أَوَّلَاً دَرْسَاً لَنَا، يَجِبُ أَنْ نَجْعَلَ شِعَارَنَا: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾.

تَعَانَقُوا يَا عِبَادَ اللهِ، تَصَالَحُوا يَا عِبَادَ اللهِ، تَسَامَحُوا يَا عِبَادَ اللهِ، كُونُوا كَالجَسَدِ الوَاحِدِ يَا عِبَادَ اللهِ، كُونُوا يَدَاً وَاحِدَةً على شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ الذينَ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوَّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورَاً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾. فَمُهِمَّةُ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ أَنْ يُوقِعُوا بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ.

لَمَّا حَضَرَتِ الوَفَاةُ أَبَا دُجَانَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ وَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ.

فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَوْثَقَ فِي نَفْسِي مِنَ اثْنَتَيْنِ: لَمْ أَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمَاً. رواه ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

وَاللهِ إِنَّ القَلْبَ الحَقُودَ لَا تَرَى وَجْهَ صَاحِبِهِ مُتَهَلِّلَاً لَا في حَيَاتِهِ، وَلَا عِنْدَ مَوْتِهِ، إِذَا لَمْ تَتَدَارَكْهُ رَحِمَةُ اللهُ تعالى.

يَا رَبُّ ارْزُقْنَا سَلَامَةَ الصَّدْرِ، وَحَقِيقَةَ التَّقْوَى. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 25/ ربيع الثاني /1438هـ، الموافق: 27/كانون الثاني / 2017م