160ـ نحو أسرة مسلمة:البيت قلعة من قلاع الدين

 

نحو أسرة مسلمة

160ـ البيت قلعة من قلاع الدين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ أُمْنِيَةَ كُلِّ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ إِقَامَةُ بَيْتٍ يَغْمُرُهُ الفَرَحُ وَالسُّرُورُ، وَأَنْ يَجِدَا فِيهِ المَأْوَى الكَرِيمَ، وَالرَّاحَةَ النَّفْسِيَّةَ، وَالحُلُمَ السَّعِيدَ.

أُمْنِيَةُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يُكْرِمَهُمَا اللهُ تعالى بِذُرِّيَّةٍ صَالِحَةٍ، في ظِلِّ أَبٍ رَحِيمٍ، وَأُمٍّ حَنُونَةٍ.

أُمْنِيَةُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ تَكْوِينُ بَيْتٍ يَجِدَانِ فِيهِ السَّكَنَ وَالرَّاحَةَ حِسَّاً وَمَعْنَىً، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْتِزَامِ شَرْعِ مَنْ قَالَ: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾. فَالجَمَالُ وَالمَالُ وَالحَسَبُ وَالنَّسَبُ لَا يَجْعَلُ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، بَلْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الذي يَجْعَلُ المَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ بِبَرَكَةِ الْتِزَامِ شَرْعِ اللهِ تعالى في الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ.

البَيْتُ قَلْعَةٌ مِنْ قِلَاعِ الدِّينِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: البَيْتُ المُسْلِمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَلْعَةً مِنْ قِلَاعِ الدِّينِ، البَيْتُ المُسْلِمُ أَمَانَةٌ يَحْمِلُهَا كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُمَا أَسَاسُ بُنْيَانِهِ وَدَعَامَةُ أَرْكَانِهِ، وَبِهِمَا يُحَدِّدُ البَيْتُ مَسَارَهُ، فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الاسْتِقَامَةِ قَوْلَاً وَعَمَلَاً، ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، وَكَانَا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى، وَتَجَمَّلَا بِحُسْنِ الأَخْلَاقِ، وَالسِّيرَةِ الطَّيِّبَةِ، صَارَ البَيْتُ مَأْوَى النُّورِ وَالهِدَايَةِ، وَإِشْعَاعَ الفَضِيلَةِ، وَتَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَإِلَّا ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ صَارَ مَأْوَىً للظُّلُمَاتِ وَالغِوَايَةِ، وَبَثِّ الرَّذِيلَةِ، وَتَنَزُّلِ الشَّيَاطِينِ فِيهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: البَيْتُ قَلْعَةٌ مِنْ قِلَاعِ الدِّينِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ على ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغُورِ البَيْتِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَارِسٌ لِهَذِهِ القَلْعَةِ مِنَ الانْهِيَارِ، وَقَدْ حَمَّلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كُلَّاً مِنَ الزَّوْجَيْنِ هَذِهِ المَسْؤُولِيَّةَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

البَيْتُ المُسْلِمُ يَتَرَفَّعُ عَنِ التَّرَفِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا كَانَ البَيْتُ المُسْلِمُ قَلْعَةً مِنْ قِلَاعِ الدِّينِ، كَانَ مُعْرِضَاً عَنِ الدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا قَلْبَاً لَا قَالَبَاً، إِنْ أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا أَخَذَ مِنْهَا بِمِقْدَارِ الحَاجَةِ، وَإِنْ أَعْرَضَتْ لَمْ يَحْزَنْ عَلَيْهَا.

البَيْتُ المُسْلِمُ هُوَ الذي يَعِيشُ حَيَاتَهُ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

البَيْتُ المُسْلِمُ هُوَ الذي يَعِيشُ حَيَاةَ الزُّهْدِ وَالقَنَاعَةِ وَالرِّضَا، وَذَلِكَ تَأَسِّيَاً بِبُيُوتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ أَمَرَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخَيِّرَ نِسَاءَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ بَيْنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ، أَو الحَيَاةِ الحَقِيقِيَّةِ البَاقِيَةِ في الآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحَاً جَمِيلَاً  * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرَاً عَظِيمَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: البَيْتُ المُسْلِمُ لَنْ يَكُونَ قَلْعَةً مِنْ قِلَاعِ الدِّينِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ طَبِيعَةَ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، الدُّنْيَا فِتْنَةٌ، الدُّنْيَا بَهْرَجٌ، الدُّنْيَا زِينَةٌ فَانِيَةٌ، لِذَا فَقَدْ أَوْصَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالإِعْرَاضِ عَنْهَا قَوْلَاً وَفِعْلَاً.

روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ».

وروى الشيخان عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ دَخَلَ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظَاً (هُوَ وَرَقُ شَجَرٍ يُدْبَغُ بِهِ) مَضْبُورَاً (مَجْمُوعَاً) وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبَاً مُعَلَّقَةً (جَمْعُ إِهَابٍ وَهُوَ الجِلْدُ قَبْلَ الدِّبَاغِ).

يَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَيْتُ.

فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكَ؟».

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ!

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا، وَلَكَ الْآخِرَةُ».وهذه رواية الإمام مسلم.

وروى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً.

فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: البَيْتُ المُسْلِمُ لَنْ يَكُونَ قَلْعَةً مِنْ قِلَاعِ الدِّينِ إِلَّا إِذَا سَمَتِ اهْتِمَامَاتُهُ وَطُمُوحَاتُهُ، كَمَا سَمَتِ اهْتِمَامَاتُ وَطُمُوحَاتُ بُيُوتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ـ وَهِيَ ذَاتُ مَحْرَمٍ مِن قِبَلِ خَالَاتِهِ،وَقِيْلَ كَانَت إِحْدَى خَالَاتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ ـ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً، فَأَطْعَمَتْهُ، ثُمَّ جَلَسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ، غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ (وَسَطَهُ وَظَهْرَهُ) مُلُوكَاً عَلَى الْأَسِرَّةِ» أَوْ «مِثْلَ المُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ» ـ يَشُكُّ أَيَّهُمَا ـ.

قَالَ: قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ، فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ.

قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ، غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ» كَمَا قَالَ فِي الْأُولَى.

قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.

قَالَ: «أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ».

فَرَكِبَتْ أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ الْبَحْرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ.

هَكَذَا تَسْمُو الهِمَمُ في البُيُوتِ التي يُنْظَرُ إِلَيْهَا أَنَّهَا قَلْعَةٌ مِنْ قِلَاعِ الدِّينِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ أَنْ تَسْمُوَ هِمَمُنَا في بُيُوتِنَا نَحْوَ الأَعْلَى، نَحْوَ الآخِرَةِ، فَالدُّنْيَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وَعَرَضٌ حَائِلٌ.

روى البيهقي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي وَافِدَةُ النِّسَاءِ إِلَيْكَ، وَاعْلَمْ ـ نَفْسِي لَكَ الْفِدَاءُ ـ أَمَا إِنَّهُ مَا مِنِ امْرَأَةٍ كَائِنَةٍ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ سَمِعَتْ بِمَخْرَجِي هَذَا أَوْ لَمْ تَسْمَعْ إِلَّا وَهِيَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، إِنَّ اللهَ بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَآمَنَّا بِكَ وَبِإِلَهِكَ الَّذِي أَرْسَلَكَ، وَإِنَّا مَعْشَرَ النِّسَاءِ مَحْصُورَاتٌ مَقْصُورَاتٌ، قَوَاعِدُ بُيُوتِكُمْ، وَمَقْضَى شَهَوَاتِكُمْ، وَحَامِلَاتُ أَوْلَادِكُمْ، وَإِنَّكُمْ مَعَاشِرَ الرِّجَالِ فُضِّلْتُمْ عَلَيْنَا بِالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَعِيَادَةِ المَرْضَى، وَشُهُودِ الْجَنَائِزِ، وَالْحَجِّ بَعْدَ الْحَجِّ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا أُخْرِجَ حَاجَّاً أَوْ مُعْتَمِرَاً وَمُرَابِطَاً حَفِظْنَا لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَغَزَلْنَا لَكُمْ أَثْوَابَاً، وَرَبَّيْنَا لَكُمْ أَوْلَادَكُمْ، فَمَا نُشَارِكُكُمْ فِي الْأَجْرِ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِوَجْهِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ سَمِعْتُمْ مَقَالَةَ امْرَأَةٍ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْ مَسْأَلَتِهَا فِي أَمْرِ دِينِهَا مِنْ هَذِهِ؟».

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا ظَنَنَّا أَنَّ امْرَأَةً تَهْتَدِي إِلَى مِثْلِ هَذَا.

فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: «انْصَرِفِي أَيَّتُهَا المَرْأَةُ، وَأَعْلِمِي مَنْ خَلْفَكِ مِنَ النِّسَاءِ أَنَّ حُسْنَ تَبَعُّلِ إِحْدَاكُنَّ لِزَوْجِهَا، وَطَلَبَهَا مَرْضَاتِهِ، وَاتِّبَاعَهَا مُوَافَقَتَهُ تَعْدِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ».

قَالَ: فَأَدْبَرَتِ المَرْأَةُ وَهِيَ تُهَلِّلُ وَتُكَبِّرُ اسْتِبْشَارَاً.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَنْظُرْ إلى بُيُوتِنَا على أَنَّهَا قَلْعَةٌ مِنْ قِلَاعِ الدِّينِ، وَلْنَتَرَفَّعْ عَنِ الدُّنْيَا وَصُوَرِهَا وَزَخَارِفِهَا، وَلْنَجْعَلْ هَمَّنَا الآخِرَةَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ؛ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 8/ جمادى الأولى /1438هـ، الموافق: 5/ شباط / 2017م