149ـنحو أسرة مسلمة: الغيرة غريزة فطرية

نحو أسرة مسلمة

149ـ الغيرة غريزة فطرية

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ صِفَاتِ الرَّجُلِ الكَامِلِ أَنْ يَغَارَ على زَوْجَتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ فِطْرِيٌّ في الإِنْسَانِ السَّوِيِّ، وَقَدْ أَثْنَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الرَّجُلِ الغَيُورِ، روى الشيخان عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلَاً مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ.

فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي».

غَيْرَةٌ مَحْمُودَةٌ، وَغَيْرَةٌ مَذْمُومَةٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مَوْضُوعَ الغَيْرَةِ ذُو أَهَمِّيَّةٍ كَبِيرَةٍ، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ التي كَثُرَ فِيهَا الفَسَادُ وَالمُفْسِدُونَ، وَالتي يَسْعَى فِيهَا أَعْدَاءُ هَذِهِ الأُمَّةِ لِإِفْسَادِ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ بِشَتَّى الوَسَائِلِ، وَالحَقِيقَةُ اسْتَطَاعَ أَعْدَاءُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَنْ يُحَقِّقُوا شَيْئَاً لَيْسَ بِالقَلِيلِ في إِفْسَادِ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَمِمَّا سَاعَدَهُمْ على ذَلِكَ ضَعْفُ الغَيْرَةِ أَو مَوْتُهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَعَدَمُ حِمَايَةِ أَصْحَابِ القِوَامَةِ لِأَعْرَاضِهِمْ، مِنْ زَوْجَةٍ، وَبِنْتٍ، وَأُخْتٍ، وَأُمٍّ، وَرَحِمٍ.

وَالمُصِيبَةُ العُظْمَى أَنَّ مَوْتَ الغَيْرَةِ لَمْ يَعُدْ صِفَةً للذينَ ابْتَعَدُوا عَنْ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، هَؤُلَاءِ جَرَفَتْهُمُ الحَضَارَةُ المَزْعُومَةُ إلى الهَاوِيَةِ السَّحِيقَةِ، بَلْ أَصْبَحَتْ صِفَةً لِبَعْضِ المُلْتَزِمِينَ المُحَافِظِينَ على دِينِهِمْ في الظَّاهِرِ، مِمَّا يَجْعَلُ العَاقِلَ يَسْتَغْرِبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الذينَ الذينَ يَتَسَاهَلُونَ في حِرَاسَةِ أَعْرَاضِهِمْ مِنْ كُلِّ غَادِرٍ وَفَاجِرٍ وَآثِمٍ يَسْعَى في الإِفْسَادِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الغَيْرَةُ تَعْنِي حِرَاسَةَ الفَضِيلَةِ، وَحِمَايَةَ الزَّوْجَةِ، وَالمَحَارِمِ، وَالـشَّرَفِ، وَالعَفَافِ، مِنْ كُلِّ مُجْرِمٍ وَغَادِرٍ وَفَاسِدٍ وَمُفْسِدٍ؛ وَهَذِهِ الغَيْرَةُ على قِسْمَيْنِ:

1ـ الغَيْرَةُ المَحْمُودَةُ: وَهِيَ المُعْتَدِلَةُ الشَّرْعِيَّةُ، التي تَجْعَلُ صَاحِبَهَا يَحْمِي زَوْجَتَهُ وَمَحَارِمَهُ مِنَ الوُقُوعِ في المُنْكَرَاتِ، وَمِنَ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ الأَجَانِبِ.

2ـ الغَيْرَةُ المَذْمُومَةُ: وَهِيَ أَنْ يَشُكَّ الرَّجُلُ في أَهْلِهِ، وَأَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَيْهِمْ، وَيُسِيءَ الظَّنَّ بِهِمْ، وَهُمْ بَعِيدُونَ كُلَّ البُعْدِ عَنِ الفَسَادِ وَالإِفْسَادِ، وَكَمِ انْهَارَتْ مِنَ الأُسَرِ، وَخُرِّبَتِ البُيُوتُ بِسَبَبِ الغَيْرَةِ المَذْمُومَةِ.

بَلْ رُبَّمَا وَبِكُلِّ أَسَفٍ بِسَبَبِ الغَيْرَةِ المَذْمُومَةِ كَمْ مِنِ امْرَأَةٍ وَقَعَتْ في الفَاحِشَةِ بِسَبَبِ اتِّهَامِ الرَّجُلِ لَهَا بِالفَاحِشَةِ، فَوَسْوَسَ لَهَا الشَّيْطَانُ فَوَقَعَتْ في الفَاحِشَةِ، بِسَبَبِ ضَعْفِ إِيمَانِهَا وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، وَبِسَبَبِ الغَيْرَةِ المَذْمُومَةِ التي يُبْغِضُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، روى أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللهُ، فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الاعْتِدَالُ في الغَيْرَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعَاً، لِأَنَّ هُنَاكَ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ هُمْ بَعِيدُوا التَّخَيُّلِ، حَيْثُ يَظُنُّونَ مَا لَيْسَ بِرِيبَةٍ أَنَّهُ رِيبَةٌ، وَهُنَاكَ مِنَ الرِّجَالِ المُتَسَاهِلِينَ في ذَلِكَ، حَيْثُ يَحْمَلِونَ الرِّيبَةَ على مَحْمَلٍ يُحْسِنُونَ بِهِ ظَنَّهُمْ، وَعِنْدَهَا يَقَعُونَ في الطَّامَّةِ الكُبْرَى.

الغَيْرَةُ غَرِيزَةٌ فِطْرِيَّةٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الغَيْرَةُ غَرِيزَةٌ فِطْرِيَّةٌ، وَصِفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَسَجِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، وَخُلُقٌ مَحْمُودٌ، وَصِفَةٌ حَسَنَةٌ؛ الغَيْرَةُ كَانَتْ أَمْرَاً مُهِمَّاً حَتَّى في الجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الإِسْلَامِ، حَتَّى وَصَلَ بِهِمُ الغُلُوُّ في هَذَا الأَمْرِ أَنْ كَانَتْ تُدْفَنُ البِنْتُ وَهِيَ حَيَّةٌ، خَوْفَاً مِنْ وُقُوعِهَا في الفَاحِشَةِ إِذَا كَبُرَتْ.

وَعِنْدَمَا جَاءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الدِّينِ هَذَّبَ هَذِهِ الغَيْرَةَ وَالخُلُقَ، وَضَبَطَهُ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ، وَحَافَظَ على كَرَامَةِ المَرْأَةِ مِنْ عَبَثِ العَابِثِينَ، وَمِنْ إِفْسَادِ المُفْسِدِينَ، حَتَّى جَعَلَ حَقَّاً للزَّوْجَةِ على زَوْجِهَا أَنْ يَغَارَ عَلَيْهَا وَأَنْ يَحْمِيَهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا دَلِيلٌ على صِدْقِ حُبِّهِ لَهَا، حَتَّى خَاطَبَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ قَائِلَاً:

أَغَارُ عَلَيْكِ مِنْ عَيْنِي وَمِنِّي   ***   وَمِنْكِ وَمِنْ مَكَانِكِ وَالزَّمَانِ

وَلَوْ أَنِّي خَـبَـأْتُكِ فِي عُيُونِي   ***   إِلَى يَـوْمِ القِـيَـامَـةِ مَـا كَفَانِي

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأَعْرَاضُ غَالِيَةٌ وَثَمِينَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِهَا مِنْ أَهْلِ الغَيْرَةِ وَالعِفَّةِ، فَهُمْ يَبْذُلُونَ الغَالِيَ وَالنَّفِيسَ في الحِفَاظِ على أَعْرَاضِهِمْ، بَلْ يَبْذُلُونَ أَرْوَاحَهُمْ في سَبِيلِ أَعْرَاضِهِمْ، وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَنْ قُتِلَ دُونِ عِرْضِهِ شَهِيدَاً، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رواه الإمام أحمد عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ غَيْرَةَ الرَّجُلِ على زَوْجَتِهِ وَبَنَاتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَسَائِرِ مَحَارِمِهِ دَلِيلٌ على قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَإِنَّ المُجْتَمَعَ الذي يَحْفَظُ نِسَاءَهُ وَمَحَارِمَهُ مُجْتَمَعٌ عَفِيفٌ وَطَاهِرٌ، وَأَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ هِمَّةً أَشَدُّهُمْ غَيْرَةً.

روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ بَصُرَ بِامْرَأَةٍ لَا نَظُنُّ أَنَّهُ عَرَفَهَا، فَلَمَّا تَوَجَّهْنَا الطَّرِيقَ، وَقَفَ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ، فَإِذَا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكِ مِنْ بَيْتِكِ يَا فَاطِمَةُ؟».

قَالَتْ: أَتَيْتُ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ، فَرَحَّمْتُ إِلَيْهِمْ مَيِّتَهُمْ وَعَزَّيْتُهُمْ.

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ السَّيِّدَةَ الطَّاهِرَةَ الفَاضِلَةَ: «مَا أَخْرَجَكِ مِنْ بَيْتِكِ؟» لَا شَكَّاً فِيهَا حَاشَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحَاشَاهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، لِأَنَّهَا هِيَ الطَّاهِرَةُ الفَاضِلَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ؛ وَإِنَّمَا سَأَلَهَا حِفَاظَاً عَلَيْهَا.

وَكَمَا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ الخَلْقِ غَيْرَةً، كَانَ كَذَلِكَ أَصْحَابُهُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ غَيْرَةً على نِسَائِهِمْ وَمَحَارِمِهِمْ، بَلْ على نِسَاءِ الأُمَّةِ، فَهَذَا سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى الأَسْوَاقَ يَزْدَحِمُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ غَيْرَةً على نِسَاءِ المُسْلِمِينَ: أَمَا تَغَارُونَ أَنْ تَخْرُجَ نِسَاؤُكُمْ؟ وَقَالَ هَنَّادٌ فِي حَدِيثِهِ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ أَوْ تَغَارُونَ؟ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَكُمْ يَخْرُجْنَ فِي الْأَسْوَاقِ يُزَاحِمْنَ الْعُلُوجَ (الرِّجَالَ الأَقْوِيَاءَ). رواه الإمام أحمد.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ في الغَيْرَةِ، لَا إِفْرَاطَ فيهَا بِحَيْثُ تُوصِلُ الغَيْرَةُ المَذْمُومَةُ إلى خَرَابِ البُيُوتِ، وَلَا تَفْرِيطَ فِيهَا بِحَيْثُ تُتْرَكُ المَرْأَةُ كَمَا تَشَاءُ.

اللَّهُمَّ اسْتُرْ أَعْرَاضَنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 20/ صفر /1438هـ، الموافق: 20/ تشرين الثاني / 2016م