8 ـدروس رمضانية 1438هـ: تعلموا القرآن وعملوا به رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ

 

دروس رمضانية 1438هـ

8 ـ تعلموا القرآن وعملوا به رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نِعَمُ اللهِ تعالى عَلَى أُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَمِنْ أَجَلِّ هَذِهِ النِّعَمِ وَأَعْظَمِهَا نِعْمَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ، الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى خَاتِمَةً للكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى الخَلْقِ، وَهُوَ المُعْجِزَةُ الخَالِدَةُ وَالبَاقِيَةُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ بَشَّرَ اللهُ تعالى عِبَادَهُ بِهَذَا القُرْآنِ العَظِيمِ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدَىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾. لِنَفْرَحْ بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْنَفْرَحْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَرِحُوا بِنِعْمَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ فَرَحَاً عَظِيمَاً، وَكَانَ انْقِطَاعُ الوَحْيِ بِانْتِقَالِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الرَّفِيقِ الأَعْلَى مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ التي فَقَدُوهَا بَعْدَ فَقْدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

تَفَاعُلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِمِقْدَارِ مَعْرِفَةِ نِعْمَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ بِمِقْدَارِ مَا يَكُونُ التَّفَاعُلُ مَعَ آيَاتِهِ وَسُوَرِهِ، فَهَاهُمْ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَفَاعَلُونَ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ أَيَّمَا تَفَاعُلٍ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ».

قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ؛ فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ ـ أَي لَانَتْ وَخَضَعَت وَالتَذَّتْ بِهَا أَي بِقِرَاءَةِ تلكَ الآيَةِ الَّتِي شَكَوا مِنهَا (أَلسِنَتُهُم) أَي أَلسِنَةُ القَوْمِ الَّذِينَ شَكَوْا مِنهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ﴾.

فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.

قَالَ: نَعَمْ.

﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرَاً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾.

قَالَ: نَعَمْ.

﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾.

قَالَ: نَعَمْ.

﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.

قَالَ: نَعَمْ.

هَلْ تَفَاعَلْنَا مَعَ هَذِهِ الآيَةِ كَمَا تَفَاعَلَ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؟ وَهَلِ اسْتَوْقَفَتْنَا هَذِهِ الآيَةُ كَمَا اسْتَوْقَفَتِ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؟

تَعَلَّمُوا القُرْآنَ وَعَمِلُوا بِهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَرَفُوا نِعْمَةَ القُرآنِ العَظِيمِ، فَاهْتَمُّوا في حِفْظِهِ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ الطَّرِيقَةِ التي يَعِيشُهَا النَّاسُ اليَوْمَ.

لَقَدْ كَانُوا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَحْفَظُونَ السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ سِنِينَ طَوِيلَةً؛ هَذَا سَيِّدُنَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَكَثَ في تَعَلُّمِ سُورَةِ البَقَرَةِ أَرْبَعَ سِنِينَ. رواه ابْنُ سَعْدٍ في الطَّبَقَاتِ.

وَجَاءَ في شَرْحِ زَادِ المُسْتَنْقَعِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنَّا لَا نَتَجَاوَزُ عَـشْرَ آيَاتٍ حَتَّى نَتَعَلَّمَهُنَّ وَنَعْمَلَ بِهِنَّ، وَنُعَلِّمَهُنَّ، وَنَعْلَمَ حَلَالَهُنَّ وَحَرَامَهُنَّ، فَأُوتِينَا العِلْمَ وَالعَمَلَ.

وَيَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ؛ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالعَمَلَ بِهِنَّ.

وروى البيهقي عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَعَلَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْبَقَرَةَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمَّا خَتَمَهَا نَحَرَ جَزُورَاً.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ المُدَّةُ التي مَكَثُوا فِيهَا مَا كَانَتْ فَقَطْ لِحِفْظِ الآيَاتِ وَالكَلِمَاتِ، وَلَا لِضَبْطِ أَلْفَاظِ السُّوَرِ، فَهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْرَعُ حِفْظَاً مِنَ المُتَأَخِّرِينَ، لَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَقَّهُونَ آيَاتِ اللهِ تعالى، وَيَنْظُرُونَ أَسْرَارَ الآيَاتِ، وَيَتَدَبَّرُونَهَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا عَرَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَسَلَفُ الأُمَّةِ هَذِهِ النِّعْمَةَ العَظِيمَةَ نِعْمَةَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، تَفَاعَلُوا مَعَ آيَاتِهِ، وَرُبَّمَا أَوْقَفَتْهُمْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ طُولَ لَيْلِهِمْ.

روى الحاكم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا وَالْآيَةُ ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

وروى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ كَانَ يُصَلِّي، فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ﴾ فَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ القُرْآنِ، فَلْنُقْبِلْ عَلَى كِتَابِ رَبِّنَا تِلَاوَةً وَتَدَبُّرَاً وَعَمَلَاً.

اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 4/رمضان /1438هـ ، الموافق: 30/أيار / 2017م