10ـ دروس رمضانية 1438هـ:صبر ممزوج بالأمل

 

دروس رمضانية 1438هـ

10ـ صبر ممزوج بالأمل

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وَهوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ، ولا يُعجِزُهُ شيءٌ في الأَرْضِ ولا فِي السَّماءِ وهوَ السَّميعُ العَليمُ، فَهوَ تَبارَكَ وتعالى قَادِرٌ على نُصرَةِ المَظلومِ، وقادِرٌ على إهلاكِ الظَّالِمِ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾.

وَلَكِنْ لِحِكمَةٍ أرادَها اللهُ تَعالى أخَّرَ نَصْرَهُ للعَبدِ المَظلومِ، ولذلكَ وَجَبَ على العَبدِ أن يَصبِرَ كما صَبَرَ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وكما صَبَرَ الأنبياءُ والمرسَلونَ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ من قَبلِهِ، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِين﴾.

صَبرٌ مَمزوجٌ بالأمَلِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: صَبْرُ المُؤمنِ هيِّنٌ سَهلٌ بِفَضْلِ الله تعالى، لأنَّهُ مَمزوجٌ بالأمَلِ، وكيفَ لا يكونُ كذلكَ واللهُ تعالى هوَ الآمِرُ بالصَّبرِ، والضَّامِنُ لِنتَائِجِهِ؟

ألم يَقُل مولانا عزَّ وجلَّ: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بالله﴾؟ ألم يَقُل مولانا عزَّ وجلَّ: ﴿وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين﴾؟ ألم يأمر ربُّنا عزَّ وجلَّ أن نُبَشِّرَ الصَّابِرينَ بقولِهِ: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ المُهْتَدُون﴾؟

يقولُ الإمامُ الغزاليُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِذَا رَأَيْت اللهَ يَحْبِسُ عَنْك الدُّنْيَا وَيُكْثِرُ عَلَيْك الشَّدَائِدَ وَالْبَلْوَى فَاعْلَمْ أَنَّك عَزِيزٌ عِنْدَهُ، وَأَنَّك عِنْدَهُ بِمَكَانٍ، وَأَنَّهُ يَسْلُكَ بِك طَرِيقَ أَوْلِيَائِهِ، أَمَا تَسْمَعُ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا﴾.

أما تُرضيكَ هذهِ الآيَةُ الكريمَةُ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أما يُرضيكَ قولُ الله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾؟ لو قالَ لكَ إنسانٌ عزيزٌ عليكَ وهوَ قادِرٌ: أنتَ بِعَينِي؛ كيفَ يكونُ حالُكَ؟ فكيفَ إذا كانَ القائِلُ الذي هوَ على كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ؟ فَكَيفَ إِذَا كَانَ القَائِلُ هوَ أرحَمُ بِعَبدِهِ من الأمِّ على وَليدِها؟

كُن على يَقينٍ بِأنَّكَ في العِنايَةِ والرِّعايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، فإذا ما وَسوَسَ لكَ الشَّيطانُ فأسرِعْ إلى ذِكرِ قولِهِ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا﴾. لأنَّ هذهِ الآيَةَ تَصرَعُ شياطينَ الإنسِ والجِنِّ، كما يَـصرَعُ شياطينُ الإنسِ والجِنِّ أهلَ الغَفلَةِ في سَاعاتِ الابتِلاءِ.

أعظَمُ من اتَّصَفَ بالصَّبرِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أعظَمُ من اتَّصَفَ بالصَّبرِ هوَ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لقد صَبَرَ على التَّعذيبِ والتَّنكيلِ والتَّشريدِ والاتِّهامِ والتَّسفيهِ، لأنَّهُ على يقينٍ بقولِهِ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا﴾.

وتَجَلَّت هذهِ العِنايَةُ الرَّبانِيَّةُ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بعدَ يومِ الطَّائِفِ، عندما خاطَبَ ربَّهُ عزَّ وجلَّ: «إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي» رواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر رَضِيَ اللهُ عنهُ. حيثُ كانت بعدَ مِحنَةِ الطَّائِفِ مِنحَةُ الإسراءِ والمِعراجِ.

تَجَلَّت هذهِ العِنايَةُ الرَّبانِيَّةُ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يومَ الهِجرَةِ من أحَبِّ بلادِ الله تعالى إليهِ إلى المدينَةِ المنوَّرَةِ، وأدرَكَهُ الطَّلَبُ، فقال لِصاحِبِهِ: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾. وكفاهُ اللهُ تعالى شَرَّهُم وكَيدَهُم.

تَجَلَّت هذهِ العِنايَةُ الرَّبانِيَّةُ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عندما وُضِعَ سَلا الجَزورِ على رأسِهِ الشَّريفِ، وجاءتِ السَّيِّدَةُ فاطمةُ رَضِيَ اللهُ عنها تبكي، فقال لها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا فَاطِمَة لا تَبكِي فإِنَّ اللهَ مانِعٌ أَبَاكِ».

وبِحَقٍّ فَقَدْ كانَ اللهُ تعالى مَانِعاً سيِّدَنَا رسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنهُم، حتَّى كَانَتِ الغَلَبَةُ لهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وظُهُورُهُ عَليهِم.

مَن صَبَرَ بِصِدقٍ مُنِحَ الوَصلَ:

نَعَم، أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَن صَبَرَ بِصِدقٍ، وصَدَقَ بِصَبرٍ، جَاءَهُ الوَصلُ، ومُنِحَ الوِصَالَ، وصَارَ الصَّابِرُ مَحبُوبَاً عِندَ اللهِ تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾. ومَن أَحبَّهُ اللهُ تعالى نَالَ الوَصلَ ومُنِحَ الوِصَالَ، كَمَا جَاءَ في الحدِيثِ القُدسيِّ: «فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ به، وبَصره الذي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ التي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ التي يمْشِي بها، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: استَحضِرُوا قولَ اللهِ تَعالى دَائِمَاً وأبَداً وخَاصَّةً فِي الشَّدَائِد: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾. وانظُرُوا إلى الُّلطفِ الرَّبَّانِيِّ المَمزُوجِ بِالشَّدَائِدِ، وصَدَقَ ابنُ عَطَاءِ اللهِ السَكَندَرِيِّ القَائِلِ: مَن ظَنَّ انفِكَاكَ لُطفِ الله عَن قَدَرِهِ فَذَلِكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ.

إخوَتِي لِنُكثِرْ مِن دُعَاءِ سَيِّدِنَا الحَسَنِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إِلَهِي، نَعَّمتَنِي فَلَم تَجِدنِي شَاكِرَاً، وَابتَلَيتَنِي فَلَم تَجِدنِي صَابِرَاً، فَلا أَنتَ سَلَبتَ النِّعمَةَ بِتَركِيَ الشُّكرَ، وَلَا أَدَمتَ الشِّدَّةَ بِتَركِيَ الصَّبرَ، إِلَهِي مَا يَكُونُ مِنَ الكَرِيمِ إلَّا الكَرَمُ.

نَسأَلُكَ يَا رَبَّنَا تَعجِيلَ الفَرَجِ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 5/رمضان /1438هـ ، الموافق: 31/أيار / 2017م