16ـ دروس رمضانية 1438هـ: السعيد حقاً من أقبل قلباً وقالباً على كتاب الله تعالى

دروس رمضانية 1438هـ

16ـ السعيد حقاً من أقبل قلباً وقالباً على كتاب الله تعالى

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ السَّعِيدَ حَقَّاً هُوَ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَاً وَقَالَبَاً، تِلَاوَةً وَتَدَبُّرَاً وَعَمَلَاً، لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى مِنْ أَجْلِ التَّبَرُّكِ بِتِلَاوَتِهِ فَقَطْ، وَمِنْ أَجْلِ نَيْلِ الحَسَنَاتِ بِتِلَاوَتِهِ فَقَطْ، حَيْثُ يَكْتُبُ اللهُ تعالى لِمَنْ يَقْرَأُ حَرْفَاً مِنْ كِتَابِ اللهِ حَسَنَةً، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.

كِتَابُ اللهِ تعالى أَنْزَلَهُ مَوْلَانَا لِتِلَاوَتِهِ تَعَبُّدَاً، وَللعَمَلِ بِهِ تَعَبُّدَاً كَذَلِكَ، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ:

الأَمْرُ الأَوَّلُ: السَّعَادَةُ لِمَنِ اتَّبَعَ القُرْآنَ، وَالأَمْرُ الثَّانِي: الشَّقَاوَةُ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنِ القُرْآنِ سُلُوكَاً وَعَمَلَاً، قَالَ تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدَىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكَاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرَاً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُعْرِضَ عَنْ كِتَابِ اللهِ تِلَاوَةً وَعَمَلَاً هُوَ إِنْسَانٌ أَحْمَقُ لَا عَقْلَ عِنْدَهُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَهْمَا كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ، وَمَهْمَا كَانَ يَرَاهُ النَّاسُ عَاقِلَاً، لِأَنَّ العَاقِلَ هُوَ الذي أَقْبَلَ عَلَى كِتَابِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَاً وَقَالَبَاً، لِذَلِكَ هَذَا المُعْرِضُ سَوْفَ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ ـ وَالنَّدَمُ يُمَزِّقُ فُؤَادَهُ ـ: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير﴾.

سَوْفَ يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ النَّدَمِ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَنْ يَنْفَعَهُ ذَلِكَ، قَالَ تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلَاً﴾.

كَمْ نُسْخَةً مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ في بُيُوتِنَا؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا أَقْبَلُوا عَلَى القُرْآنِ العَظِيمِ قَلْبَاً وَقَالَبَاً، وَجَعَلُوا القُرْآنَ العَظِيمَ في صُدُورِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ في السُّطُورِ سَادُوا الدُّنْيَا وَكَانُوا خِيرَةَ الرِّجَالِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

في زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانَتْ نُسَخٌ مِنَ القُرْآنِ قَلِيلَةً وَقَلِيلَةً جِدَّاً، لِأَنَّهُ كَمَا قُلْتُ كَانَ في صُدُورِهِمْ.

أَمَّا نَحْنُ اليَوْمَ: فَنُسَخُ القُرْآنِ الكَرِيمِ رُبَّمَا أَنْ تَفُوقَ عَدَدَ المُسْلِمِينَ، في كُلِّ بَيْتِ وَاحِدٍ مِنَّا أَكْثَرُ مِنْ نُسْخَةٍ مِنَ القْرَآنِ العَظِيمِ، وَلَكِنْ مَعَ كَثْرَةِ نُسَخِ القُرْآنِ الكَرِيمِ فَإِنَّ القْرَآنَ العَظِيمَ مَهْجُورٌ في كَثِيرٍ مِنْ بُيُوتَاتِ المُسْلِمِينَ، مَهْجُورٌ تِلَاوَةً وَعَمَلَاً، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى، وَأَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ نَكُونَ مِنَ المَرْحُومِينَ.

انْتَهَيْنَا رَبَّنَا انْتَهَيْنَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُقْبِلَ عَلَى القُرْآنِ الكَرِيمِ تِلَاوَةً وَعَمَلَاً لَا يَسَعُهُ إِلَّا الانْقِيَادُ لِأَوَامِرِ اللهِ تعالى بِدُونِ تَوَقُّفٍ أَو تَرَدُّدٍ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ تَحْرِيمِ الخَمْرِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون﴾.

فَقَالَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا انْتَهَيْنَا، حَتَّى مَنْ كَانَ في فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ مَجَّهُ مُبَاشَرَةً.

مَا وَصَلَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ إِقْبَالِهِمْ عَلَى كِتَابِ اللهِ تعالى قَلْبَاً وَقَالَبَاً، لِذَلِكَ أَحَلُّوا حَلَالَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ بِدُونِ تَوَقُّفٍ أَو تَرَدُّدٍ.

أَيْنَ نَحْنُ مِنَ الامْتِثَالِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ أُمَّةُ القُرْآنِ وَلِله الحَمْدُ، نَحْنُ مِمَّنِ اصْطَفَاهُمُ اللهُ تعالى لِوِرَاثَةِ هَذَا القُرْآنِ العَظِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾. وَلَكِنْ أَيْنَ نَحْنُ مِنَ الامْتِثَالِ لِأَوَامِرِ اللهِ تعالى مَعَ كَثْرَةِ وُجُودِ نُسَخِ القُرْآنِ العَظِيمِ في بُيُوتِنَا كَمَا قُلْتُ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: خُذُوا عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ هَذِهِ الأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تعالى، ثُمَّ لِنَنْظُرْ لِأَنْفُسْنَا أَيْنَ نَحْنُ مِنْهَا مَنْ حَيْثُ الالْتِزَامُ.

أولاً: يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾. أَيْنَ أَثَرُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِينَا؟ وَهَلِ الرِّبَا يَزْدَادُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ أَمْ يَنْقُصُ؟

ثانياً: يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًَا رَّحِيمَاً﴾. أَيْنَ الحِجَابُ في الأُمَّةِ؟ وَهَلِ السُّفُورُ يَزْدَادُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ أَمْ يَنْقُصُ؟

ثالثاً: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾. وَيَقُولُ: ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ».

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟

قَالَ: «الْحَمْوُ المَوْتُ» رواه الإمام مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. أَيْنَ نَحْنُ مِنْ تَحْرِيمِ الاخْتِلَاطِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الأَجَانِبَ؟ وَهَلِ الاخْتِلَاطُ يَزْدَادُ في صُفُوفِ المُؤْمِنِينَ أَمْ يَنْقُصُ، وَخَاصَّةً في شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ، حَيْثُ الاخْتِلَاطُ قَائِمٌ عِنْدَ الإِفْطَارِ وَعِنْدَ سَاعَةِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: عَوْدَةً إلى كِتَابِ اللهِ تعالى، عَوْدَةً إلى القُرْآنِ الكَرِيمِ، عَوْدَةً إِلَيْهِ قَلْبَاً وَقَالَبَاً، فَهُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا، وَسِرُّ حِفْظِ وُجُودِنَا، فَمَنْ أَرَادَ الحِفْظَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ فَلْيَتَمَسَّكْ بِالمَحْفُوظِ، أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾. فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالمَحْفُوظِ صَارَ مَحْفُوظَاً بِإِذْنِ اللهِ تعالى.

مَنْ أَرَادَ حِفْظَ مَالِهِ وَعِرْضِهِ وَأَرْضِهِ وَوَطَنِهِ وَجَمِيعِ مَا أَسْبَغَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ فَلْيَتَمَسَّكْ بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْيُقْبِلْ عَلَيْهِ تِلَاوَةً وَعَمَلَاً.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِتِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ مَعَ العَمَلِ بِهِ، وَاجْعَلْهُ قَائِدَاً لَنَا إلى جَنَّاتِكَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ مَعَ الذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 9/رمضان /1438هـ ، الموافق: 4/حزيران/ 2017م