20ـ دروس رمضانية 1438هـ: الترغيب في العفو والصفح

 

دروس رمضانية 1438هـ

20ـ الترغيب في العفو والصفح

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ هَدْيِ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَمِنْ عَدْلِ اللهِ تعالى أَنَّهُ شَرَعَ القِصَاصَ، لِأَنَّ القِصَاصَ ضَمَانٌ لِحَيَاةِ النَّاسِ جَمِيعَاً، قَالَ تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾. وَهُوَ أَعْدَلُ الطُّرُقِ وَأَقْوَمُهَا.

وَقَالَ تعالى في الانْتِقَامِ المُبَاحِ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾. وَمَا شَرَعَ اللهُ تعالى الانْتِقَامَ إِلَّا لِعِلْمِهِ بِضَعْفِ الإِنْسَانِ إِنْ ظُلِمَ.

التَّرْغِيبُ في العَفْوِ وَالصَّفْحِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَغَّبَ رَبُّنا عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى رَدِّ المَظْلَمَةِ وَالانْتِقَامِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِين﴾. وَقَالَ تعالى آمِرَاً سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِين﴾. وَقَالَ آمِرَاً لِحَبِيبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِين﴾.

وَقَالَ تعالى مُرَغِّبَاً عِبَادَهُ بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيم﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين﴾.

العَفْوُ مِنْ أَسْمَاءِ وَصِفَاتِ اللهِ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ أَسْمَاءِ وَصِفَاتِ اللهِ تعالى العَفْوُ: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوَّاً غَفُورَاً﴾. ﴿إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُور﴾. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوَّاً قَدِيراً﴾.

روى الإمام أحمد عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ الله تَعَالَى حَدَّثَنَا بِهَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «﴿مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾. وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: ﴿مَا أَصَابَكُمْ﴾. مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾. وَاللهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِم الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَاللهُ تَعَالَى أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ».

وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا، الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ» رواه أبو داود عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وروى الترمذي عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَصَابَ حَدَّاً فَعُجِّلَ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، فَاللهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَى عَبْدِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ أَصَابَ حَدَّاً فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ وَعَفَا عَنْهُ، فَاللهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ إِلَى شَيْءٍ قَدْ عَفَا عَنْهُ».

أَيُّهُمَا أَسْلَمُ، الانْتِقَامُ أَمِ العَفْوُ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِيُفَكِّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا، أَيُّهُمَا أَسْلَمُ لَهُ، العَفْوُ أَمِ الانْتِقَامُ؟

يَقُولُ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلَاً، فَقُلْ لَهُ: يَا أَخِي، اعْفُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي العَفْوَ، وَلَكِنْ أَنتَصِرُ كَمَا أَمَرَني اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقُلْ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ مِثْلَاً بِمِثلٍ، وَإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ، فَإِنَّهُ بَابٌ وَاسِعٌ، فَإِنَّهُ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وَصَاحِبُ الانْتِصَارِ يُقَلِّبُ الْأُمُورَ.

العَفْوُ مَنْزِلَةُ الأَكَابِرِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مَسْأَلَةَ العَفْوِ هِيَ مَسْأَلَةُ الأَكَابِرِ مِنْ عِبَادِ اللهِ تعالى، وَهَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَالُ الدُّعاةِ وَأَصْحَابُ القُدْوَةِ الصَّالِحَةِ، فَهَذَا سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَشْتُمُهُ رَجُلٌ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، كما روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَجُلَاً شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ، رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ، قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ» ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

فَيَا أَيُّهَا المَظْلُومُ: أَنْتَ مُخيَّرٌ إِنْ قَدَرتَ عَلَى مَنْ ظَلَمَكَ، أَنْ تُعَامِلَهُ بِالعَدْلِ أَو تُعَامِلَهُ بِالفَضْلِ، فَالعَدْلُ أَنْ تَأْخُذَ حَقَّكَ بِدُونِ زِيَادَةٍ، وَإِلَّا فَتَنْقَلِبُ إلى ظَالِمٍ، وَالفَضْلُ أَنْ تَأْخُذَ أَجْرَ مَظْلَمَتِكَ مِنَ اللهِِ تعالى ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾. وَأَنْ تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء﴾. ومن قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً *  ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيد * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾.

ودَخَلَ رَجُلٌ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ، فَجَعَلَ يَشْكُو إِلَيْهِ رَجُلَاً ظَلَمَهُ، وَيَقَعُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّكَ أَنْ تَلْقَى اللهَ وَمَظلَمَتُكَ كَمَا هِيَ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ وَقَدِ اقْتَصَصْتَهَا.

ورَحِمَ اللهُ الإِمَامَ الشَّافِعِيَّ عِنْدَمَا قَالَ:

قَالُوا سَكَتَّ وَقَدْ خُوصِمْتَ، قُلْتُ لَهُمْ   ***   إِنَّ الجَـــوَابَ لِـبَــابِ الــشَّرِّ مِـفْـتَـاحُ

فَـالـعَفْـوُ عَنْ جَـاهِـلٍ أَو أَحْمَـقٍ أَدَبٌ    ***   نَــعَمْ، وَفِيهِ لِصَـوْنِ العِـرْضِ إِصْــلَاحُ

إِنَّ الأُسُــودَ لَتُــخْشَى وَهِيَ صَــامِتَةٌ   ***   وَالــكَلْبُ يُحْثَى وَيُـرْمَـى وَهُـَو نَـبَّـــاحُ

وفي الخِتامِ: يَقُولُ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لِرَجُلٍ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ: كِلِ الظَّالمَ إلى ظُلْمِهِ، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ إِلَيْهِ مِنْ دُعَائِكَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِعَمَلٍ، وَقَمِنٌ أَلَّا يَفْعَلَ. اهـ. مَعْنَى قَمِنٌ: أَيْ خَلِيقٌ وَجَدِيرٌ.

اللَّهُمَّ إنِّي أُشهدُكَ أنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْ كُلِّ مَنْ ظَلَمَنِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، وَأَرْجُوكَ يَا رَبِّ أَنْ تُلْهِمَ كُلَّ مَنْ ظَلَمْتُهُ أَو أَسَأْتُ إِلَيْهِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِّي، وَنَسْأَلُكَ يَا اللهُ أَنْ تَعْفُوَ عَنَّا جَمِيعَاً. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 11/رمضان /1438هـ ، الموافق: 6/حزيران/ 2017م