33ـ دروس رمضانية 1438هـ:الإحسان إلى الوالدين

 

دروس رمضانية 1438هـ

33ـ الإحسان إلى الوالدين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ما أَعظَمَ هذا الدِّينَ، وما أَجمَلَ ما فِيهِ من تَشرِيعٍ وأَحكَامٍ، ولا عَجَبَ في ذلكَ ولا غَرَابَةَ، فإنَّهُ من اللَّطِيفِ الخَبِيرِ، فلقد جَعَلَ هذا الدِّينُ الحَنِيفُ للوَالِدَينِ مَكَانَةً عَظِيمَةً كَرِيمَةً، إذ جَعَلَ حَقَّهُمَا بَعدَ حَقِّ اللهِ تعالى، فقال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لقد بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ كَيفَ نَتَعَامَلُ مَعَ أَقرَبِ النَّاسِ إِلَينَا، مَعَ من كَانَا سَبَبَاً في وُجُودِنَا في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، فَحَذَّرَنَا من قَولِ كَلِمَةِ أُفٍّ لَهُمَا، وأَمَرَنَا أن نَقُولَ لَهُمَا قَولاً مَعرُوفَاً يُدخِلُ السُّرُورَ إلى قَلبَيهِمَا.

فَضْلاً عن تَقبِيلِ رَأسَيْهِمَا وأَيدِيْهِمَا وأَرجُلِهِمَا، وقَضَاءِ حَوَائِجِهِمَا؛ يَقُولُ سَيِّدُنَا أبُو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: لا تَمشِ بَينَ يَدَيْ أَبِيكَ، ولكنِ امشِ خَلفَهُ أو إلى جَنبِهِ، ولا تَدَعْ أَحَدَاً يَحُولُ بَينَكَ وبَينَهُ، ولا تَمشِ فَوقَ إِجَّارٍ ـ سَطْحٍ ـ أَبُوكَ تَحتَهُ، ولا تَأكُلْ عِرقَاً ـ عَظمٌ فِيهِ لَحْمٌ ـ قد نَظَرَ أَبُوكَ إِلَيهِ، لَعَلَّهُ قد اشتَهَاهُ. رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأَوسَطِ.

الإحسَانُ إلى الوَالِدَينِ مَعَ كُفْرِهِمَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لو قَرَأنَا القُرآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ لَهَالَنَا ما نَجِدُ فِيهِ من التَّأكِيدِ على البِرِّ والإحسَانِ للوَالِدَينِ، لقد أَمَرَ اللهُ تعالى بالإحسَانِ إِلَيهِمَا ولو مَعَ كُفْرِهِمَا، على أن لا نُطِيعَهُمَا في مَعصِيَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَيفَ لا يَكُونُ الأمرُ كذلكَ، واللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. ويَقُولُ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَن أَولَى النَّاسِ بالمَعرُوفِ والإحسَانِ من الوَالِدَينِ؟ مَن أَولَى النَّاسِ بالبِرِّ والطَّاعَةِ في غَيرِ مَعصِيَةٍ من الوَالِدَينِ؟ بل مَن أَولَى النَّاسِ بِحُسْنِ الخُلُقِ من الأَبَوَينِ، وخَاصَّةً بالنِّسبَةِ للأُمِّ؟ مَن أَولَى النَّاسِ بِخَفْضِ الجَنَاحِ من هذهِ الأُمِّ الضَّعِيفَةِ في خَلْقِهَا، القَوِيَّةِ في تَحَمُّلِهَا، التي ذَاقَتْ أَنوَاعَ الآلامِ مُدَّةَ حَمْلِهَا، وقَاسَتْ من الشَّدَائِدِ ما لا يَعلَمُهُ إلا اللهُ تعالى سَاعَةَ الوَضْعِ، ثمَّ عَانَتْ الذي عَانَتْهُ بالإرضَاعِ لِمُدَّةِ حَولَينِ كَامِلَينِ، والتي أَزَالَتْ الأذَى والأوسَاخَ عن وَلِيدِهَا بلا مَلَلٍ ولا ضَجَرٍ؟

بِرُّ الوَالِدَةِ من أَعظَمِ القُرُبَاتِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أُخَاطِبُ الأَبنَاءَ ـ وكُلُّنَا أَبنَاءٌ ـ وخَاصَّةً في هذهِ الأَزمَةِ التي فَضَحَت كَثِيرَاً من الأَبنَاءِ، وكَشَفَتْ عن طَبَائِعِهِم الكَامِنَةِ فِيهِم، حَيثُ قَابَلَ الكَثِيرُ مِنهُمُ الإحسَانَ بالإسَاءَةِ، واللُّطفَ بالفَظَاظَةِ والغَلاظَةِ، وحُسْنَ الخُلُقِ بِسُوءِ الأَدَبِ، وأَقُولُ لِنَفسِي أولاً، ولَهُم ثَانِيَاً:

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟

قَالَ: «أُمُّكَ».

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ».

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ».

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هل تَعلَمُونَ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؟

أخرَجَ الإمام البخاري في الأَدَبِ المُفرَدِ عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي خَطَبتُ امرَأَةً، فَأَبَت أن تَنكِحَنِي، وخَطَبَهَا غَيرِي، فَأَحَبَّت أن تَنكِحَهُ، فَغِرتُ عَلَيهَا فَقَتَلتُهَا، فَهَل لي من تَوبَةٍ؟

قَالَ: أُمَّكَ حَيَّةٌ؟

قَالَ: لا.

قَالَ: تُبْ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وتَقَرَّبْ إِلَيهِ ما استَطَعتَ.

فَذَهَبتُ فَسَأَلتُ ابنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عن حَيَاةِ أُمِّهِ؟

فَقَالَ: إِنِّي لا أَعلَمُ عَمَلاً أَقرَبَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ من بِرِّ الوَالِدَةِ.

فيا من وَقَعَ في الكَبَائِرِ إذا أَرَدتَ أن يَغفِرَ اللهُ تعالى لَكَ تِلكَ الكَبَائِرَ، اِستَغفِرِ اللهَ عزَّ وجلَّ، وأَعِدِ الحُقُوقَ إلى أَصحَابِهَا، والزَمْ بِرَّ وَالِدَيكَ، وخَاصَّةً أُمَّكَ، فَإِنَّكَ بذلكَ تَتَقَرَّبُ إلى اللهِ تعالى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المَحرُومُ من حُرِمَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ، المَحرُومُ من مَاتَ على عُقُوقٍ لِوَالِدَيهِ، لَيسَ العَيبُ أن نُخطِئَ، ولكنَّ العَيبَ أن نَستَمِرَّ في الخَطَأِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قُولُوا للعَاقِّ لِوَالِدَيهِ: هل تُرِيدُ أن تَمُوتَ على خَيرٍ أم على شَرٍّ؟ وهل تَرَى العَاقَّ الذي مَاتَ على عُقُوقٍ مَاتَ على خَيرٍ؟

قُولُوا للعَاقِّ: لا تَغتَرَّ بِحِلْمِ اللهِ تعالى عَلَيكَ، فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ على عُقُوقِكَ في الدُّنيَا قَبلَ الآخِرَةِ، عَرَفَ هذا من عَرَفَ، وجَهِلَ هذا من جَهِلَ.

أَسأَلُ اللهَ تعالى أن يُوَفِّقَنَا لِبِرِّ الوَالِدَينِ في سَائِرِ أَحوَالِنَا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 18/رمضان /1438هـ ، الموافق: 13/حزيران/ 2017م