131ـ كلمة شهر محرم 1439: هل حاسبت نفسك؟

 

131ـ كلمة شهر محرم 1439: هل حاسبت نفسك؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَا نَحْنُ نُوَدِّعُ عَامَاً هِجْرِيَّاً، وَنَبْدَأُ بِعَامٍ هِجْرِيٍّ جَدِيدٍ، انْطَوَى عَامٌ هِجْرِيٌّ كَامِلٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَعْلَمُ بأَيِّ شَيْءٍ انْطَوَى عَنْهُ هَذَا العَامُ، بِسُوءِ عَمَلٍ يُسَوِّدُ الوَجْهَ، أَم بِعَمَلٍ صَالِحٍ يُبَيِّضُهُ؟ ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾.

الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ المُوقِنُ بِلِقَاءِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ وَقَفَاتٌ مَعَ نَفْسِهِ يُحَاسِبُهَا مُحَاسَبَةَ الشَّرِيكِ الشَّحِيحِ لِـشَرِيكِهِ الشَّحِيحِ، وَيُحَاوِلُ تَصْحِيحَ مَسِيرَةِ صَاحِبِهِ، وَيَتَدَارَكُ مَا فَاتَهُ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾.

تَصَفَّحْ صَحِيفَةَ عَمَلِكَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَتَصَفَّحَ صَحِيفَةَ عَمَلِهِ في كُلِّ لَيْلَةٍ وَنَهَارٍ، كَمَا يَقُولُ المَاوَرْدِيُّ: المُحَاسَبَةُ أَنْ يَتَصَفَّحَ الإِنْسَانُ في لَيْلِهِ مَا صَدَرَ مِنْ أَفْعَالِ نَهَارِهِ، فَإِنْ كَانَ مَحْمُودَاً أَمْضَاهُ وَأَتْبَعَهُ بِمَا شَاكَلَهُ وَضَاهَاهُ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومَاً اسْتَدْرَكَهُ إِنْ أَمْكَنَ وَانْتَهَى عَنْ مِثْلِهِ في المُسْتَقْبَلِ.

وَيَقُولُ الحَارِثُ المُحَاسِبِيُّ: المُحَاسَبَةُ هِيَ التَّثَبُّتُ في جَمِيعِ الأَحْوَالِ قَبْلَ الفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِنَ العَقْدِ بِالضَّمِيرِ، أَو الفِعْلِ بِالجَارِحَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ مَا يَفْعَلُ وَمَا يَتْرُكُ، فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا كَرِهَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ جَانَبَهُ بِعَقْدِ ضَمِيرِ قَلْبِهِ، وَكَفَّ جَوَارِحَهُ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الإِمْسَاكِ عَنْ تَرْكِ الفَرْضِ وَسَارَعَ إلى أَدَائِهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا تَرَكَ العَبْدُ مُحَاسَبَةَ نَفْسِهِ، وَأَهْمَلَ تَصَفُّحَ صَحِيفَةِ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَاسْتَرْسَلَ مَعَ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَمَشَى مَعَهَا، فَإِنَّ الأَمْرَ سَيَؤُولُ إلى هَلَاكِ وَدَمَارِ هَذَا العَبْدِ، فَيُصْبِحُ حَالَهُ حَالَ العَبْدِ الذي أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ عَنِ العَوَاقِبِ وَالمَآلِ، وَغَرِقَ في المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ الذُّنُوبُ، وَأَنِسَ بِهَا، وَصَعُبَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْطِمَ نَفْسَهُ عَنِ المَعَاصِي؛ وَرَحِمَ اللهُ تعالى الإِمَامَ البُوصِيرِيَّ إِذْ قَالَ:

وَالـنَّـفْـسُ كَـالـطِّـفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَـ   ***   ـبَّ عَلَى حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

فَـاحْـذَرْ هَـوَاهَـا وَحَـاذِرْ أَنْ تُوَلِّيَهُ    ***   إِنَّ الهَـوَى مَـا تَـوَلَّى يُــعْـمِ أَو يُــــــصِمِ

وَرَاعِهَا وَهِـيَ في الأَعْـمَالِ سَـائِـمَةٌ    ***   وَإِنْ هِيَ اسْتَحَلَّتِ المَرْعَى فَلَا تُـــــــسِمِ

كَـمْ حَـسَّـنَـتْ لَـذَّةٌ للــمَـرْءِ قَـاتِلَةً   ***   مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسَــــــمِ

وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا   ***   وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِــــــــــــمِ

هَلْ حَاسَبْتَ نَفْسَكَ في هَذِهِ الأَزْمَةِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّنَا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ المَوْتَ مُحِيطٌ بِنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَهَلْ حَاسَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الأَزْمَةِ وَالفِتْنَةِ التي تَمُرُّ عَلَى المُسْلِمِينَ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَعَلَى بِلَادِ الشَّامِ بِشَكْلٍ خَاصٍّ؟

هَلْ كُنْتَ سَبَبَاً في إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَسَلْبِ الأَمْوَالِ، وَتَيْتِيمِ الأَطْفَالِ، وَتَرْمِيلِ النِّسَاءِ؟ إِذَا كُنْتَ سَبَبَاً في ذَلِكَ، فَهَلْ تُبْتَ إلى اللهِ تعالى قَبْلَ مَوْتِكَ؟ وَأَمَّا إِذَا مَا زِلْتَ تُبَرِّرُ مَوَاقِفَكَ بَعْدَ رُؤْيَتِكَ للدَّمَارِ وَالظُّلْمِ الذي وَقَعَ عَلَى الأُمَّةِ، فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ القَائِلِ: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعَاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعَاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرَاً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾؟

مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ إِذَا مَا زِلْتَ مُصِرَّاً عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُخَاطِبُكَ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً، فَلَا تَظَالَمُوا»؟

مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ إِذَا مَا زِلْتَ مُصِرَّاً عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَهُوَ القَائِلُ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً﴾؟

مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ إِذَا مَا زِلْتَ مُصِرَّاً عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَلَّغَكَ رَسُولُهُ الكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعَاً لِمَا جِئْتُ بِهِ»؟ رواه البغوي وابن أبي عاصم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: انْظُرُوا إلى الدُّنْيَا بِعَيْنِ البَصِيرَةِ لَا بِعَيْنِ الـبَصَرِ، لِأَنَّكُمْ إِنْ نَظَرْتُمْ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الـبَصَرِ دُونَ البَصِيرَةِ فُتِنْتُمْ بِهَا ـ وَرَبِّ العِبَادِ ـ أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾؟

وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ البَصِيرَةِ كَانَ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ نَعِيمَهَا ابْتِلَاءٌ، وَحَيَاتَهَا عَنَاءٌ، وَعَيْشَهَا نَكَدٌ، وَصَفْوَهَا كَدَرٌ، وَجَدِيدَهَا يَبْلَى، وَمُلْكَهَا يَفْنَى، وَوُدَّهَا مُنْقَطِعٌ، وَخَيْرَهَا يُنْتَزَعُ؛ وَالمُتَعَلِّقُونَ بِهَا عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ.

الدُّنْيَا إِمَّا نِعْمَةٌ زَائِلَةٌ، وَإِمَّا بَلِيَّةٌ نَازِلَةٌ، أَو مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ عِنْدَمَا خَاطَبَ قَوْمَهُ: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ المُسْـرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.

اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا، وَاجْعَلْنَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 1/ محرم /1439هـ ، الموافق: 21/أيلول/ 2017م