89ـ كلمات في مناسبات: تذكروا وأنتم تودعون عاماً هجرياً

 

89ـ كلمات في مناسبات: تذكروا وأنتم تودعون عاماً هجرياً

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَا نَحْنُ في أَوَّلِ يَوْمِ عَامٍ مِنَ الأَعْوَامِ الهِجْرِيَّةِ، حَيْثُ طُوِيَ عَامٌّ هِجْرِيٌّ كَامِلٌ مِنْ أَعْمَارِنَا، وَدَخَلْنَا في عَامٍ جَدِيدٍ، لَا يَدْرِي أَحَدُنَا مَتَى يَنْتَهِي أَجَلُهُ، في هَذَا العَامِ، أَمْ لَا.

انْطَوَى عَامٌ هِجْرِيٌّ مِنْ أَعْمَارِنَا، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّنَا تَقَدَّمْنَا نَحْوَ آجَالِنَا المَضْـرُوبَةِ المَعْلُومَةِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، انْطَوَى عَامٌ هِجْرِيٌّ مِنْ أَعْمَارِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا اسْتَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الأَعْمَالِ التي أَحْصَاهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، فَإِمَّا هِيَ أَعْمَالٌ تُبَيِّضُ الوَجْهَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَسْتَبْشِرُ صَاحِبُهَا بِهَا، وَإِمَّا أَنَّهَا تُسَوِّدُ الوَجْهَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، حَتَّى يَتَمَنَّى العَبْدُ لَو أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الأَعْمَالِ أَمَدَاً بَعِيدَاً، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ العَاقِلُ الفَطِنُ هُوَ الذي يُرَاجِعُ حِسَابَاتِهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى لَا يَنْدَمَ، الفَطِنُ مَنْ سَمِعَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ» رواه الترمذي والحاكم عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَأَمَّا الغَافِلُ السَّاهِي اللَّاهِي الَّذي ضَيَّعَ أَوْقَاتَهُ، سَوْفَ تَشْتَدُّ عَلَيْهِ حَسَرَاتُهُ، عِنْدَمَا يَرَى عُمُرَهُ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ، تَشْتَدُّ عَلَيْهِ حَسَرَاتُهُ عِنْدَمَا يَرَى أَيَّامَهُ زَادَتْهُ شِقْوَةً وَبُعْدَاً عَنِ اللهِ تعالى، فَأَصْبَحَ بِذَلِكَ مِنَ الخَاسِرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الزَّمَانُ بِتَقَلُّبَاتِهِ أَنْصَحُ نَاصِحٍ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَأَدَّبَ، وَالدَّهْرُ بِأَحْدَاثِهِ وَقَوَارِعِهِ أَفْصَحُ مُتَكَلِّمٍ لِمَنْ يَسْمَعُ، فَالسَّعِيدُ مَنْ تَأَدَّبَ بِتَقَلُّبَاتِ الزَّمَانِ، وَاعْتَبَرَ مِنْ أَحْدَاثِ الدَّهْرِ.

الكَيِّسُ مَنْ عَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، لِأَنَّهُ نَظَرَ إلى الدُّنْيَا بِالبَصِيرَةِ لَا بِالـبَصَرِ، فَأَيْقَنَ أَنَّ نَعِيمَهَا ابْتِلَاءٌ، وَحَيَاتَهَا عَنَاءٌ، وَعَيْشَهَا نَكَدٌ، وَصَفْوَهَا كَدَرٌ، وَجَدِيدَهَا يَبْلَى، وَمُلْكَهَا يَفْنَى، وَمَرَدَّهَا يَنْقَطِعُ، وَخَيْرَهَا يُنْتَزَعُ؛ وَالمُتَعَلِّقُونَ بِهَا عَلَى وَجَلٍ.

الكَيِّسُ عَلِمَ بأَنَّ الدُّنْيَا إِمَّا نِعْمَةٌ زَائِلَةٌ، وَإِمَّا بَلِيَّةٌ نَازِلَةٌ، أَو مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ، وَسَمِعَ قَوْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.

تَذَكَّرُوا يَا عِبَادَ اللهِ:

تَذَكَّرُوا وَأَنْتُمْ تُوَدِّعُونَ عَامَاً هِجْرِيَّاً مَضَى مِنْ أَعْمَارِكُمْ:

أولاً: أَنَّ المَوْتَ مُحِيطٌ بِكُمْ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ﴾. تَذَكَّرُوا المَوْتَ وَسَكرَاتِهِ، وَشِدَّةَ أَهْوَالِهِ وَكُرُبَاتِهِ، تَذَكَّرُوا نَزْعَ الرُّوحِ، فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ السُّيُوفِ، وَنَشْرِ المَنَاشِيرِ، وَقَرْضِ المَقَارِيضِ، روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ ـ أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، يَشُكُّ عُمَرُ ـ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى» حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ.

وفي رِوَايَةٍ للحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالمَوْتِ وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ المَوْتِ».

المَوْتُ وَعْدُ صِدْقٍ، وَكُلُّ عَبْدٍ سَوْفَ يَشْرَبُ كَأْسَ مَنِيَّتِهِ، وَرَحِمَ اللهُ تعالى الإِمَامَ الشَّافِعِيَّ عِنْدَمَا سُئِلَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟

قَالَ: أَصْبَحْتُ مِنَ الدُّنْيَا رَاحِلَاً، وَلإِخْوَانِي مُفَارِقَاً، وَبِكَأْسِ المَنِيَّةِ شَارِبَاً، فَلا وَاللهِ مَا أَدْرِي إِلَى الْجَنَّةِ أُسَاقُ فَأُهَنِّيهَا، أَمْ إِلَى النَّارِ فَأُعَزِّيهَا؛ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:

وَلَمَّا قَـسَـى قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي   ***   جَعَلْتُ رَجَائِي نَحْوَ عَفْوِك سُـلَّمَاً

تَـعَـاظَـمَـنِي ذَنْـبِـي فَـلَـمَّا قَـرَنْـتُهُ   ***   بِـعَـفْـوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْـظَمَا

وَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ   ***   تَجُودُ وَتَـعْـفُو مِـنَّـةً وَتَـكَـرُّمَــا

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المَوْتُ لَا يَخْشَى أَحَدَاً، يَأْخُذُ الكَبِيرَ كَمَا يَأْخُذُ الصَّغِيرَ، وَيَأْخُذُ الحَاكِمَ كَمَا يَأْخُذُ المَحْكُومَ، وَيَأْخُذُ الظَّالِمَ كَمَا يَأْخُذُ المَظْلُومَ، وَيَأْخُذُ المُتَكَبِّرَ كَمَا يَأْخُذُ المُتَوَاضِعَ، وَيَأْخُذُ العَاصِيَ كَمَا يَأْخُذُ المُطِيعَ، وَيَأْخُذُ العَدُوَّ لِدِينِ اللهِ تعالى كَمَا يَأْخُذُ المُحِبَّ لِدِينِ اللهِ تعالى؛ المَوْتُ لَا يَخْشَى أَحَدَاً، وَلَا تَأْخُذْهُ شَفَقَةٌ عَلَى أَحَدٍ، فَهَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يُخَاطِبُ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الكَلِمَاتِ:

يَا نَفْـسُ قَدْ أَزِفَ الرَّحِيلُ   ***   وَأَظَلَّكَ الخَطْبُ الجَــلِيلُ

فَـتَأَهَّبِي يَـا نَــفْـــسُ لَا    ***   يَلْعَبْ بِكِ الأَمَلُ  الطَّوِيلُ

فَـــلَتَــنْــزِلِنَّ  بِـمَـنْـزِلٍ   ***   يَنْسَى الخَلِيلُ بِــهِ الخَـلِيلَ

وَلَــيَرْكَــــبَنَّ عَلَيْكِ فِيهِ   ***   مِنَ الثَّرَى ثِـقَـلٌ ثَــــقِيلُ

قُــــــــرِنَ الفَنَاءُ بِنَا فَلا   ***   يَبْقَى العَزِيزُ وَلَا  الــذَّلِيلُ

ثانياً: تَذَكَّرُوا بِأَنَّ القَبْرَ يَنْتَظِرُكُمْ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَذَكَّرُوا بِأَنَّ القَبْرَ يَنْتَظِرُكُمْ، وَقَبْرُكَ عَمَلُكَ، تَصَوَّرْ أَنَّكَ جُرِّدْتَ مِنَ الدُّنْيَا التي مَلَكْتَهَا، حَتَّى مِنْ ثِيَابِكَ التي تَبَاهَيْتَ بِهَا، تَصَوَّرْ أَنَّكَ وُسِّدْتَ التُّرَابَ، وَفَارَقْتَ الأَهْلَ وَالأَحْبَابَ وَالأَمْوَالَ، وَالقُصُورَ، وَحُطَامَ الدُّنيَا، تَرَكْتَ الكُلَّ، وَالكُلُّ تَرَكُوكَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَكَ إِلَّا عَمَلُكَ، «يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُه» رواه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

عَمَلُكَ جَلِيسُكَ، إِمَّا جَلِيسَاً صَالِحَاً مُؤْنِسَاً، وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى؛ تَذَكَّرُوا قَوْلَ مَنْ قَالَ:

تَاللهِ لَو عَاشَ الفَتَى في عُمُرِهِ   ***   أَلْفَاً مِنَ الأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِهِ

مُـتَـنَـعِّمَاً فِـيـهَا بِكُلِّ لَـذِيذَةٍ   ***   مُـتَـلَذِّذَاً فِيهَا بِسُكْنَى قَصْرِهِ

لَا يَعْتَرِيهِ الهَمُّ طُـولَ حَـيَاتِهِ   ***   كَلَّا وَلَا تَـرِدُ الهُمُومُ بِصَدْرِهِ

مَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ في أَنْ يَفِي    ***   فِيهَـا بِـأَوَّلِ لَـيْـلَـةٍ في قَـبْرِهِ

لِنَتَذَكَّرْ جَمِيعَاً قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾.

ثالثاً: تَذَكَّرُوا بِأَنَّ العُمُرَ قَصِيرٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَذَكَّرُوا بِأَنَّ العُمُرَ قَصِيرٌ، وَالسَّفَرَ طَوِيلٌ، وَالزَّادَ قَلِيلٌ، وَالعَقَبَةَ كَؤُودٌ؛ وَالعَبْدُ بَيْنَ حَالٍ مَضَى لَا يَدْرِي مَا اللهُ قَاضٍ فِيهِ، وَحَالٍ آتٍ لَا يَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ فِيهِ.

السَّعِيدُ مَنْ تَزَوَّدَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ حَيَاتِهِ لِمَوْتِهِ، وَمِنْ شَبَابِهِ لِهَرَمِهِ، وَمِنْ صِحَّتِهِ لِمَرَضِهِ، وَمِنْ فَرَاغِهِ لِشُغْلِهِ، وَمِنْ غِنَاهُ لِفَقْرِهِ، وَمَنْ قُوَّتِهِ لِضَعْفِهِ، فَمَا بَعْدَ المَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتِبٍ، وَلَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ دَارٍ إِلَّا الجَنَّةَ أَو النَّارَ، وَتَذَكَّرُوا جَمِيعَاً قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الكَثِيرُ يَشْكُو هُمُومَهُ، وَلَا يَدْرِي المَخْرَجَ مِنْهَا، فَيَا مَنْ يَشْكُو هُمُومَهُ، إِنَّ الخُرُوجَ مِنْ هَذِهِ الهُمُومِ المَوْهُومَةِ تَكُونُ في إِصْلَاحِ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ تعالى، لِأَنَّ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تعالى كَفَاهُ اللهُ تعالى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ.

إِنَّ الخُرُوجَ مِنْ هَذِهِ الهُمُومِ المَوْهُومَةِ تَكُونُ في صِدْقِ سَرِيرَتِكَ، وَمَنْ صَدَقَ في سَرِيرَتِهِ أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا.

إِنَّ الخُرُوجَ مِنْ هَذِهِ الهُمُومِ المَوْهُومَةِ تَكُونُ في أَنْ تَجْعَلَ هَمَّكَ الآخِرَةَ، لِأَنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللهُ تعالى أَمْرَ دُنْيَاهُ، وَجَاءَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمَا خَرَجْنَا مِنْ عَامٍ هِجْرِيٍّ، وَدَخَلْنَا عَامَاً هِجْرِيَّاً جَدِيدَاً، سَوْفَ يَأْتِي يَوْمٌ نَخْرُجُ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ، فَلْنُحَاسِبْ أَنْفُسَنَا عَلَى مَا قَدَّمْنَا في العَامِ المَاضِي، وَمَاذَا نَوَيْنَا للعَامِ المُقْبِلِ.

يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَغْفُلَ عَنْ مَصِيرِنَا، وَيَجِبُ أَنْ لَا نَبْقَى مَعَ تَقْصِيرِنَا، عَلَيْنَا أَنْ نُسَابِقَ أَهْلَ العَزَائِمِ، السَّابِقِينَ بِالخَيْرَاتِ، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يَنْشُلَنَا مِنْ أَوْحَالِنَا، وَأَنْ يَحْمِلَ عَنَّا جَمِيعَ التَّبِعَاتِ.

عَلَيْنَا أَنْ نَتَذَكَّرَ قَوْلَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَاسِبْ نَفْسَكَ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ، فَإِنَّهُ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابٍ فِي الشِّدَّةِ؛ عَادَ مَرْجِعُهُ إِلَى الرِّضَا وَالغِبْطَةِ، وَمَنْ أَلْهَتْهُ حَيَاتُهُ، وَشَغَلَتْهُ أَهْوَاءُهُ، عَادَ أَمْرُهُ إِلَى النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ؛ فَتَذَكَّرْ مَا تُوعَظُ بِهِ لِكَيْمَا تُنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ، وَتَكُونَ عِنْدَ التَّذْكِرَةِ وَالمَوْعِظَةِ مِنْ أُولِي النُّهَى. رواه ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

لِنَقُدْ أَنْفُسَنَا لَا أَنْ تَقُودَنَا أَنْفُسُنَا، لِنُلْزِمْهَا كِتَابَ اللهِ تعالى، وَهَدْيَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ مَنْ قَادَ نَفْسَهُ فَقَدْ مَلَكَهَا، وَمَنْ مَلَكَهَا كَانَ مَلِكَاً، وَإِلَّا فَهُوَ عَبْدُ نَفْسِهِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 1/ محرم /1439هـ، الموافق: 21/ أيلول / 2017م