26ـ الإنسان في القرآن العظيم :وقفة مع حديث قاتل مائة نفس (2)

 

الإنسان في القرآن العظيم

26ـ وقفة مع حديث قاتل مائة نفس (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قُلْنَا في الدَّرْسِ المَاضِي: نُرِيدُ أَنْ نَقِفَ وِقْفَةَ تَأَمُّلٍ وَتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ مَعَ حَدِيثِ القَاتِلِ مِائَةَ نَفْسٍ، الذي رواه الشيخان ـ واللفظ لمسلم ـ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسَاً يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ.

فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ المَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبَاً مُقْبِلَاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرَاً قَطُّ.

فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ».

قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا، أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ المَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ (أَيْ: نَهَضَ وَتَقَدَّمَ لِيَقْرُبَ بِذَلِكَ إِلى الأَرْضِ الصَّالِحَةِ).

ذَكَرْنَا في الدَّرْسِ المَاضِي ثَلَاثَةَ أُمُورٍ اسْتَفَدْنَاهَا مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:

الأُولَى: أَنَّ طَرِيقَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ أَمَامَ جَمِيعِ العِبَادِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ اقْتِرَافَ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ، وَسُلُوكَ طَرِيقِ الفِسْقِ وَالفُجُورِ لَهُ نِهَايَةٌ، وَالسَّعِيدُ مَنْ نَهَاهُ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّ كَثْرَةَ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي تُوصِلُ إلى المَلَلِ مِنْهَا وَكَرَاهِيَةِ الذَّاتِ.

الرَّابِعَةُ: عَدَمُ القُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ يُعَلِّمُنَا عَدَمَ القُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى، وَعَدَمَ اليَأْسِ مِنْ عَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ، مَهْمَا بَلَغَتِ الذُّنُوبُ، إِذَا تَدَارَكْنَا أَنْفُسَنَا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ المَوْتِ.

وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَاسَاً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً.

فَنَزَلَ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾.

وَنَزَلَتْ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾.

كَمَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكُمُ السَّمَاءَ، ثُمَّ تُبْتُمْ، لَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ» رواه ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وفي رِوَايَةٍ للإمام أحمد: «حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللهَ، لَغَفَرَ لَكُمْ».

فَهَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ يُرَغِّبُنَا بِصِدْقِ التَّوْبَةِ، وَتَحْقِيقِ شُرُوطِهَا، وَأَنْ لَا يَيْأَسَ العَبْدُ وَلَا يَقْنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى، مَهْمَا بَلَغَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، وَرَحِمَ اللهُ تعالى الإِمَامَ الشَّافِعِيَّ الذي كَانَ يَقُولُ:

وَلَمَّا قَــسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِـبِي   ***   جَعَلْتُ رَجَائِي نَحْوَ عَفْوِك سُلَّمَا

تَـعَـاظَـمَـنِـي ذَنْـبِـي فَـلَـمَّا قَـرَنْتُهُ   ***   بِـعَـفْـوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا

وَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ   ***   تَجُودُ وَتَعْفُو مِـنَّـــــــةً وَتَكَرُّمَا

لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إِلَّا أَتَاهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ يُعَلِّمُنَا أَنْ نُسْرِعَ إلى التَّوْبَةِ إلى اللهِ تعالى مَعَ تَحْقِيقِ شُرُوطِهَا مَهْمَا فَعَلْنَا مِنْ ذُنُوبٍ وَمَعَاصٍ وَمُنْكَرَاتٍ قَبْلَ مَوْتِنَا، وَلَا يَدْرِي أَحَدُنَا مَتَى يَمُوتُ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَسْرَعَ إلى التَّوْبَةِ وَحَقَّقَ شُرُوطَهَا، وَمِنْ شُرُوطِهَا إِعَادَةُ الحُقُوقِ لِأَصْحَابِهَا، فَاللهُ تعالى يَغْفِرُ الذُّنُوبَ مَهْمَا كَانَتْ.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَبِي طَوِيلٍ شَطَبٍ المَمْدُودِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلَاً عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئَاً، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إِلَّا أَتَاهَا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

(حَكَى فِيهَا الخَطَّابِيُّ وَجْهَيْنِ؛ فَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَالحَاجَةُ ظَاهِرَةٌ، وَالدَّاجَةُ إِتْبَاعٌ فِيمَا يَظْهَرُ، وَأَمَّا التَّشْدِيدُ، فَرَوَى البَغَوِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: الحَاجَّةُ: الذي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الحَاجِّ إِذَا ذَهَبُوا، وَالدَّاجَّةُ: الذي يَقْطَعُ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ إِذَا رَجَعُوا).

قَالَ: «فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟».

قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ.

قَالَ: «نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ».

قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ؛ فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ تَمَامِ ِرَحْمَةِ اللهِ تعالى أَنَّ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ، وَالسَّيِّئَاتِ تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، بَل وَإِنَّ الحَسَنَاتِ أَيَّامَ الجَاهِلِيَّةِ تُثْبَتُ لِصَاحِبِهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَمَاذَا نَنْتَظِرُ؟

فَاللهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، الذي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَرَحْمَتُهُ قَرِيبَةٌ مِنَ المُحْسِنِينَ، مِنَ الرَّجَّاعِينَ التَّوَّابِينَ، الذينَ إِذَا أَذْنَبُوا اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا ذُكِّرُوا ذَكَرُوا، فَلَيْسَتِ المُشْكِلَةُ في الوُقُوعِ في الذَّنْبِ، المُشْكِلَةُ في الإِصْرَارِ عَلَيْهِ، المُشْكِلَةُ في تَبْرِيرِهِ، المُشْكِلَةُ في عَدَمِ التَّوْبَةِ وَالبَابُ مَفْتُوحٌ أَمَامَ العَاصِينَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَلَّمَنَا هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ، حَدِيثُ القَاتِلِ مِائَةَ نَفْسٍ، بِأَنَّ اللهَ تعالى أَرْحَمُ بِنَا مِنْ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَأَنَّهُ تَبَارَكَ وتعالى فَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ أَمَامَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَمَهْمَا أَشْرَكَ العَبْدُ وَكَفَرَ، أَو طَغَى وَتَجَبَّرَ، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ، وَبَابُ التَّوْبَةِ مُشَّرَّعٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَالسَّعِيدُ المُوَفَّقُ مَنْ وَلَجَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فِي الخِتَامِ أُذَكِّرُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِقَوْلِ سَيِّدِنَا لُقْمَانَ لِوَلَدِهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه البيهقي عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، ارْجُ اللهَ رَجَاءً لَا تَأْمَنْ فِيهِ مَكْرَهُ، وَخَفِ اللهَ مَخَافَةً لَا تَيْأَسُ فِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ.

قَالَ: يَا أَبَتَاهُ، وَكَيْفَ أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا لِي قَلْبٌ وَاحِدٌ.

قَالَ: المُؤْمِنُ كَذَا لَهُ قَلْبَانِ: قَلْبٌ يَرْجُو بِهِ، وَقَلَبٌ يَخَافُ بِهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا بِصِدْقِ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ قَبْلَ مَوْتِنَا، فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنَا، وَنِعْمَ الإِلَهُ إِلَهُنَا، وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 28/ جمادى الأولى /1439هـ، الموافق: 14/ شباط / 2018م