118ـمع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم : «أفرغت يا أبا الوليد؟»

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

118ـ «أفرغت يا أبا الوليد؟»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الدَّعْوَةَ إلى اللهِ تعالى هِيَ وَظِيفَةُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهِيَ سَبِيلُ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ؛ وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ كَانَتِ الدَّعْوَةُ إلى اللهِ تعالى مِنْ أَفْضَلِ القُرُبَاتِ إلى اللهِ تعالى، وَمِنْ أَعْظَمِ المَقَامَاتِ في دِينِ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلَاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلَاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» رواه الشيخان عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الدَّعْوَةُ إلى اللهِ تعالى تَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ وَمُصَابَرَةٍ، وَتَحْتَاجُ إلى أَخْلَاقٍ سَامِيَةٍ عَالِيَةٍ، وَإلى قُلُوبٍ تَقِيَّةٍ نَقِيَّةٍ مُخْلِصَةٍ للهِ تعالى، لَا تَبْتَغِي بِذَلِكَ عَرَضَاً مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا الحِسِّيَّةِ أَو المَعْنَوِيَّةِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أًَصْحَابَهُ الكِرَامَ وَآلَ بَيْتِهِ الأَخْيَارَ الأَطْهَارَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعَاً.

«أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَكُونُ الدَّعْوَةُ إلى اللهِ تعالى، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ تَعْلِيمِهِ للصَّحَابَةِ الكِرَامِ وَآلِ بَيْتِهِ الأَخْيَارِ الأَطْهَارِ.

الدَّعْوَةُ إلى اللهِ تعالى تَحْتَاجُ إلى جَهَابِذَةٍ، إلى رِجَالٍ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ تعالى عَلَيْهِ، إلى رِجَالٍ جَعَلُوا هَمَّهُمُ الآخِرَةَ، وَمَنْ كَانَ هَمُّهُ الآخِرَةَ، تَعَلَّمَ الصَّبْرَ وَالمُصَابَرَةَ، وَتَعَلَّمَ الأَخْلَاقَ الحَسَنَةَ، وَسَلَامَةَ الصَّدْرِ، وَعُلُوَّ الهِمَّةِ، وَالتَّرَفُّعَ عَلَى الدُّنْيَا.

روى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ قُرَيْشَاً اجْتَمَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ في المَسْجِدِ.

فَقَالَ لَهُمْ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: دَعُونِي حَتَّى أَقُومَ إِلَيْهِ فَأُكَلِّمَهُ، فَإِنِّي عَسَى أَنْ أَكُونَ أَرْفَقَ بِهِ مِنْكُمْ.

فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ أَوْسَطُنَا وَأَفْضَلُنَا، فَكَأَنَّا وَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ مَا لَمْ يُدْخِلْ رَجُلٌ عَلَى قَوْمِهِ قَبْلَكَ، فَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بِهَذَا الحَدِيثِ مَالَاً فَذَلِكَ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ أَنْ تَجْمَعَ لَهُ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالَاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَرَفَاً فَنَحْنُ مُشَرِّفُوكَ حَتَّى لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ فَوْقَكَ وَلَا تُقْطَعَ الأُمُورُ دُونَكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا عَنْ لَمَمٍٍ يُصِيبُكَ لَا تَقْدِرُ عَنِ النُّزُوعِ عَنْهُ بَذَلْنَا لَكَ خَزَائِنَنَا حَتَّى يُعْذَرَ في طَلَبِ الطِّبِّ لِذَلِكَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكَاً مَلَّكْنَاكَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الوَلِيدِ؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَقَرَأَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾. حَتَّى مَرَّ بِالسَّجْدَةِ فَسَجَدَ، وَعُتْبَةُ مُلْقٍ يَدَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهَا.

وَقَامَ عُتْبَةُ لَا يَدْرِي مَا يُرَاجِعُهُ بِهِ إلى نَادِي قَوْمِهِ.

فَلَمَّا رَأَوْهُ مُقْبِلَاً قَالُوا: لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ بِوَجْهٍ مَا قَامَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ؛ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا مَعْـشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ كَلَّمْتُهُ بالذي أَمَرْتُمُونِي بِهِ حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ كَلَّمَنِي بِكَلَامٍ لَا وَاللهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ بِمِثْلِه قَطُّ، فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ لَهُ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي اليَوْمَ وَاعْصُونِي فِيمَا بَعْدَهُ، اتْرُكُوا الرَّجُلَ وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ مَا هُوَ بِتَارِكٍ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ العَرَبِ، فَإِنْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ يَكُنْ شَرَفُهُ شَرَفَكُمْ، وَعِزُّهُ عِزَّكُم، وَمُلْكُهُ مُلْكَكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِ تَكُونُوا قَدْ كَفَيْتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ.

قَالَوا: صَبَأْتَ يَا أَبَا الوَلِيدِ؟ اهـ.

وفي رِوَايَةٍ لابْنِ كَثِيرٍ، أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَاد وَثَمُود﴾. أَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَهْلِهِ وَاحْتَبَسَ عَنْهُم.

فَقَالَ أَبُو جهل: وَاللهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا صَبَأَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَهُ طَعَامُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ أَصَابَتْهُ، انْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ فَأَتَوْهُ.

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ يَا عُتْبَةُ مَا جِئْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ كَانَ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ.

فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ بِاللهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدَاً أَبَدَاً، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالَاً، وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ، وَقَصَّ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ، فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللهِ مَا هُوَ بِسِحْرٍ وَلَا بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ، قَرَأَ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم حم تَنْزِيل من الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. حَتَّى بَلَغَ ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مثل صَاعِقَة عَاد وَثَمُود﴾. فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدَاً إِذَا قَالَ شَيْئَاً لَمْ يَكْذِبْ، فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ. اهـ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى أَنْ تَكُونَ قُلُوبُنَا عَلَى قَلْبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَلْبٍ تَقِيٍّ نَقِيٍّ لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا حَسَدَ، وَلَا بَغْضَاءَ، وَلَا اسْتِعْلَاءَ، وَلَا اسْتِكْب؟

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى الأَدَبِ في التَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِينَ، وَخَاصَّةً مِمَّنْ نَدْعُوهُمْ إلى اللهِ تعالى مِنْ أَهْلِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ؟

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى ضَبْطِ النَّفْسِ أَثْنَاءَ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى؟

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى عُلُوِّ الهِمَّةِ، وَإلى أَنْ يَكُونَ هَمُّنَا الآخِرَةَ، وَإلى نَبْذِ حُبِّ الدُّنْيَا بِكُلِّ صُوَرِهَا مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ وَسِيَادَةٍ وَرِيَادَةٍ وَمَكَانَةٍ وَمَدْحٍ وَثَنَاءٍ أَثْنَاءَ دَعْوَتِنَا إلى اللهِ تعالى؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَلَّمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصَّحْبَ وَآلَ البَيْتِ أَثْنَاءَ دَعْوَةِ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى عُلُوَّ الهِمَّةَ، وَانْشِغَالَ القَلْبِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يُعْرَضُ عَلَى الدَّاعِي مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا المُقَزِّزَةِ الدَّنِيَّةِ، وَالتي تُثِيرُ الاشْمِئْزَازَ في قَلْبِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الدَّاعِي.

لَقَدْ كَانَ مَوْقِفُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِي الوَلِيدِ مَوْقِفَاً يُلْقِي في القَلْبِ المَهَابَةَ وَالثِّقَةَ وَالمَوَدَّةَ وَالاطْمِئْنَانَ؛ وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 29/ جمادى الأولى /1439هـ، الموافق: 15/ شباط / 2018م