الإنسان في القرآن العظيم

30ـ وقفة مع حديث قاتل مائة نفس (6)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَدِيثُ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ يُعَلِّمُنَا دُرُوسَاً عَظِيمَةً، مِنْ أَهَمِّهَا الإِسْرَاعُ إلى التَّوبَةِ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِ، وَلَا يَدْرِي العَبْدُ مَتَّى يَنْتَهِي أَجَلُهُ ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

حَدِيثُ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ عَلَّمَنَا بِأَنَّ المَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ الحَدِيثُ الـشَّرِيفُ الذي رَوَاهُ الأَصْبَهَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «النَّادِمُ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ الرَّحْمَةَ، وَالمُعْجَبُ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ المَقْتَ، وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ سَيَقْدِمُ عَلَى عَمَلِهِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَرَى عَمَلَهُ وَسُوءَ عَمَلِهِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَطِيَّتَانِ فَأَحْسِنُوا السَّيْرَ عَلَيْهِمَا إِلَى الْآخِرَةِ، وَاحْذَرُوا التَّسْوِيفَ، فَإِنَّ المَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَلَا يَغْتَرَنَّ أَحَدُكُمْ بِحِلْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ».

ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَحَدِيثُ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ عَلَّمَنَا بِأَنَّ المَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَمَا دَامَ العَبْدُ مُهَدَّدَاً بِالمَوْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَحِّحَ نِيَّتَهُ، وَعِبَادَتَهُ، وَيُجَدِّدَ تَوْبَتَهُ، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَهُ بِالخَاتِمَةِ الحَسَنَةِ.

هَذَا القَاتِلُ الذي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ مَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ سَيَمُوتُ، فَهُوَ مَوْفُورُ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ، وَهُوَ بِكَامِلِ قُوَّتِهِ، وَلَكِنَّ المَوْتَ كَانَ يَنْتَظِرُهُ.

فَالعَبْدُ لَا يَدْرِي مَتَى يَمُوتُ، لِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِدَّ لَهُ، وَأَنْ يُسْرِعَ إلى التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ وَالتَّذَلُّلِ للهِ تعالى وَالنَّدَمِ، حَتَّى يُعْطِيَهُ اللهُ تعالى عَطَاءً بِغَيْرِ حِسَابٍ، كَرَمَاً مِنْهُ وَإِحْسَانَاً.

﴿اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

لِنُحَاسِبْ أَنْفُسَنَا وَلْنَنْظُرْ مَا لَنَا وَمَا عَلَيْنَا، فَمَا كَانَ لَنَا أَخَذْنَاهُ، وَمَا كَانَ عَلَيْنَا أَدَّيْنَاهُ، لِأَنَّنَا مُسَافِرُونَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَنْ نَعُودَ إِلَيْهَا أَبَدَاً، وَلْنَنْظُرْ إلى الذي قَدَّمْنَاهُ لِيَوْمِ القِيَامَةِ، هَلْ يَصْلُحُ لِآخِرَتِنَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُنْجِينَا مِنْ عَذَابِ اللهِ تعالى أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُبَيِّضُ وُجُوهَنَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُحِبُّهُ اللهُ تعالى أَمْ لَا؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ خِلَالِ حَدِيثِ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ، وَمِنْ خِلَالِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾. لِنُخَاطِبْ أَنْفُسَنَا وَلْنَقُلْ: يَا نَفْسُ، المَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سِنٍّ دُونَ سِنٍّ، فَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ لِلِقَاءِ اللهِ تعالى؟

يَا نَفْسُ، كُونِي عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّكَ سَتَمُوتِينَ، وَبَعْدَ المَوْتِ إِمَّا إلى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إلى نَارٍ، فَأَيَّ الدَّارَيْنِ تَخْتَارِينَ؟ وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

المَوْتُ بَـابٌ وَكُـلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ   ***   فَلَيْتَ شَعْرِي بَعْدَ البَابِ مَا الدَّارُ

الدَّارُ جَنَّاتُ عَدْنٍ إنْ عَمِلْتَ بِمَا    ***   يُـرْضِـي الْإِلَهَ وَإِنْ خَالَفْتَ فَالنَّارُ

هُمَا مَحَلَّانِ مَا لِلنَّاسِ غَـيْـرُهُـمَـا   ***   فَانْظُرْ لِـنَـفْـسِـكَ مَاذَا أَنْتَ مُخْتَارُ

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِيُخَاطِبْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ الأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ، مَا هَذِهِ الجُرْأَةُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، وَأَنْتِ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ يَرَاكِ؟ مَا أَشَدَّ جَهْلَكِ، وَمَا أَقَلَّ حَيَاءَكِ؟ فَأَسْرِعِي إلى التَّوْبَةِ قَبلَ المَوْتِ، وَتَذَكَّرِي قَوْلَ القَائِلِ:

تَـفَـكَّـرْتُ في حَشْرِي وَيَوْمِ وَفَاتِيَا    ***   وَدَفْني وَتَرْكِي في المَقَابِرِ ثَاوِيَـا

فَرِيدَاً وَحِـيــــــدَاً بَعْدَ عِزٍّ وَمَنْعَةٍ    ***   رَهِينَ ذُنُوبي وَالتُّرَابُ وِسَادِيَـا

تَفَكَّرْتُ في طُولِ الحِسَابِ وَعَرْضِهِ   ***   وَذُلِّ مَقَامِي حِينَ أُعْطَى كِتَابِيَا

لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي الْفَتى كَيْفَ يَتَّقِي    ***   إِذَا هُوَ لَمْ يجْعَلْ لَهُ اللهَ وَاقِيَــــا

تَذَكَّرِي قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ» رواه الترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا مَنْ بِدُنيَاهُ اشْتَغَلْ   ***   قَـــدْ غَرَّهُ طُولُ الأَمَلْ

المَوْتُ يَــــأْتي بَغْتَةً   ***   وَالْقَبرُ صُنْدُوقُ العَمَلْ

المَوْتُ يَقِينٌ لَا شَكَّ فِيهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المَوْتُ يَقِينٌ لَا شَكَّ فِيهِ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ﴾.

المَوْتُ يَقِينٌ لَا شَكَّ فِيهِ ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾.

المَوْتُ يَقِينٌ لَا شَكَّ فِيهِ ﴿قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾.

وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: المَوْتُ يَقِينٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَشَكٌّ لَا يَقِينَ فِيهِ.

قَالُوا: كَيْفَ يَا أَبَا الحَسَنِ؟

قَالَ: يَقِينٌ لَا شَكَّ فِيهِ؛ فَكُلُّ النَّاسِ تَعْرِفُ أَنَّهَا سَتَمُوتُ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ الذي لَا يَمُوتُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَاقِعُنَا الذي نَعِيشُهُ مِنْ سَفْكٍ للدِّمَاءِ، وَتَهْدِيمٍ للبُيُوتِ، مَعَ كَثْرَةِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ يِقَوْلِ بِلِسَانِ الحَالِ: المَوْتُ لَا يَأْتِي. مَعَ أَنَّهُ آتٍ لَا مَحَالَةَ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَدِيثُ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ عَلَّمَنَا بِأَنَّ المَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخِّرُ العَبْدَ، فَمَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ بَادَرَ إلى التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ، وَاسْتَعَدَّ لِلِقَاءِ اللهِ تعالى، وَخَشِيَ أَنْ تَفُوتَهُ الطَّاعَاتُ.

يُرْوَى في بَعْضِ التَّفَاسِيرِ في قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾. أَنَّ التي اشْتَكَتْ إلى اللهِ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ؛ وَقَدْ مَرَّ بِهَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في خِلَافَتِهِ وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى حِمَارٍ، فَاسْتَوْقَفَتْهُ طَوِيلَاً وَوَعَظَتْهُ وَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، قَدْ كُنْتَ تُدْعَى عُمَيْرَاً، ثُمَّ قِيلَ لَكَ عُمَرُ، ثُمَّ قِيلَ لَكَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَاتَّقِ اللهَ يَا عُمَرُ، فَإِنَّهُ مَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ خَافَ الفَوْتَ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالحِسَابِ خَافَ العَذَابَ؛ وَهُوَ وَاقِفٌ يَسْمَعُ كَلَامَهَا.

فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَتِقِفُ لِهَذِهِ العَجُوزِ هَذَا الوُقُوفَ؟

فَقَالَ: وَاللهِ لَو حَبَسَتْنِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلى آخِرِهِ لَا زِلْتُ إِلَّا للصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ، أَتَدْرُونَ مَنْ هَذِهِ العَجُوزِ؟ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ؛ سَمِعَ اللهُ قَوْلَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، أَيَسْمَعُ رَبُّ العَالَمِينَ قَوْلَهَا وَلَا يَسْمَعُهُ عُمَرُ؟ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخِتَامِ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 4/ رجب /1439هـ، الموافق: 21/ آذار / 2018م