8ـ بر الوالدين : الوالدان أوسط أبواب الجنة

 

بر الوالدين

8ـ الوالدان أوسط أبواب الجنة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ عِظَمِ مَكَانَةِ الوَالِدَيْنِ في دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ عِظَمِ وُجُوبِ بِرِّهِمَا وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، أَنْ جَعَلَهُمَا اللهُ تعالى أَوْسَطَ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَالمُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يُحَافِظُ عَلَى ذَلِكَ البَابِ بِالبِرِّ وَالإِحْسَانِ وَالتَّقْدِيرِ، وَأَمَّا الذي زَهِدَ في الآخِرَةِ، وَلَمْ يُفَكِّرْ بِهَا، فَإِنَّهُ يُضَيِّعُ هَذَا البَابَ بِالعُقُوقِ وَالعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ وَالاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِمَا.

الوَالِدَانِ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ لِيَ امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ».

وَفِي رِوَايَةٍ لابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَنَّ رَجُلَاً أَتَى أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فقَالَ: إِنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى تَزَوَّجْتُ، وَإِنَّهُ الْآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا.

قَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تَعُقَّ وَالِدَكَ، وَلَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَكَ، غَيْرَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ، حَدَّثْتُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ، أَوْ دَعْ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: السَّعِيدُ مَنْ وُفِّقَ بَعْدَ تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِبِرِّ وَالِدَيْهِ، وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَاً، وَالشَّقِيُّ التَّعِيسُ مَنْ عَقَّ وَالَدَيْهِ وَعَصَاهُمَا وَأَسَاءَ إِلَيْهِمَا، وَلَمْ يَرْعَ حُقُوقَهُمَا، فَبِرُّ الوَالَدَيْنِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الجَنَّةِ، وَعُقُوقُهُمَا مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ دُخُولِ نَارِ جَهَنَّمَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

روى البيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مُطِيعَاً فِي وَالِدَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ مِنَ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدَاً فَوَاحِدَاً، وَمَنْ أَمْسَى عَاصِيَاً للهِ فِي وَالِدَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ مِنَ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدَاً فَوَاحِدَاً».

قَالَ الرَّجُلُ: وَإِنْ ظَلَمَاهُ؟

قَالَ: «وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ».

فَيَا سَعَادَةَ البَارِّينَ بِوَالِدِيهِمْ، وَيَا تَعَاسَةَ العَاقِّينَ لَهُمَا، فَمَنْ كَانَ بَارَّاً فَلْيَزْدَدْ في بِرِّهِمَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ، وَمَنْ كَانَ عَاقَّاً فَلْيُبَادِرْ إلى التَّوْبَةِ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ العَظِيمِ، وَلْيُحَاوِلْ اسْتِدْرَاكَ مَا فَاتَهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يَدِينُ يُدَانُ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «بِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَعِفِّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ، وَمَنْ تُنُصِّلَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الْحَوْضَ» رواه الحاكم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لَا طَلَاقَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا نَتَحَدَّثُ عَنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ، وَأَنَّهُمَا أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ.

بَعْضُ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ عِنْدَمَا يَسْمَعُونَ مِثْلَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ في بِرِّ الوَالِدَيْنِ قَدْ يَأْمُرُونَ الوَلَدَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ طَاعَةُ وَالِدَيْهِ في ذَلِكَ؟

جَاءَ في كِتَابِ اللُّبَابِ أَنَّهُ أَتَى الإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ تَحْتِي امْرَأَةً وَأَبِي يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا.

فَقَالَ لَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا تُطِعْ أَبَاكَ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلَيْسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ عُمَرَ في تَطْلِيقِهِ زَوْجَتَهُ؟

قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنْ كَانَ أَبُوكَ مِثْلَ عُمَرَ فَطَلِّقْهَا.

وَقِصَّةُ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه أبو داود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ، وَكُنْتُ أُحِبُّهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا، فَقَالَ لِي: طَلِّقْهَا؛ فَأَبَيْت.

فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْهَا».

أَيُّهَا الأَبْنَاءُ، عَلَيْكُمْ بِبِرِّ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَكِنْ كُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْ ضَيَاعِ حُقُوقِ نِسَائِكُمْ، فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَإِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِذَا طَلَبَ الوَالِدَانِ أَو أَحَدُ الوَالِدَيْنِ مِنْكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَلَا تُطَلِّقُوا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ظُلْمٌ، وَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ، وَاسْعَوْا في تَحْسِينِ العَلَاقَةِ بَيْنَهُمَا مَا اسْتَطَعْتُمْ إلى ذَلِكَ سَبِيلَاً، وَإِلَّا فَإِنَّ لِأَبِيكَ وَأُمِّكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَكُنْ مُـسْتَحْضِرَاً قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيَّاً أَوْ فَقِيرَاً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَاً﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَا حَسرَةً وَيَا أَسَفَاهُ عَلَى شَابٍّ وَشَابَّةٍ بَذَلَ فِيهِمَا الوَالِدَانِ الجُهْدَ الجَهِيدَ، وَفِي نِهَايَةِ الأَمْرِ يَكُونَانِ عَاقَّيْنِ لَهُمَا، يَا حَسرَةً وَيَا أَسَفَاً عَلَى مَنْ كَانَ حَرِيصَاً عَلَى دُخُولِ الجَنَّةِ وَهُوَ عَاقٌّ لِوَالِدَيْهِ.

يَا مَنْ هُوَ عَاقٌّ لِوَالِدَيْهِ سَوْفَ تَبْكِي دَمَاً إِنْ مَاتَا وَهُمَا غَيْرُ رَاضِيَيْنِ عَنْكَ، روى ابْنُ الجَوْزِيِّ في البِرِّ وَالصِّلَةِ وابْنُ عَسَاكِرَ في تَارِيخِ دِمَشْقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ أُمُّ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بَكَى، فَقِيلَ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا وَاثِلَةَ؟

قَالَ: كَانَ لِي بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَغُلِقَ أَحَدُهُمَا.

وَرَوَى ابْنُ الجَوْزِيِّ في البِرِّ وَالصِّلَةِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ إِيَاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ الحَارِثَ العُكْلِيَّ فِي جَنَازَةِ أُمِّهِ يَعْنِي يَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: تَبْكِي؟

قَالَ: وَلِمَ لَا أَبْكِي، وَقَدْ أُغْلِقَ عَنِّي بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا رِضَاهُمَا في الدُّنْيَا وَلَا في الآخِرَةِ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 8/ رجب /1439هـ، الموافق: 25/ آذار / 2018م