134ـ كلمة شهر ربيع الثاني 1439: «انْظُرْ مَا تَقُولُ»

 

134ـ كلمة شهر ربيع الثاني 1439: «انْظُرْ مَا تَقُولُ»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَاشَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَفْضَلَ وَأَكْرَمَ وَأَعْظَمَ عِيشَةٍ عَاشَتْهَا البَشَرِيَّةُ جَمْعَاءَ، وَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُ القَائِلِ: لَوْ عَلِمَ المُلُوكُ وَأَبْنَاءُ المُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ لَجَالَدُونَا بِالسُّيُوفِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ.

لَقَدْ عَاشُوا أَجْمَلَ وَأَكْرَمَ عِيشَةٍ، عِنْدَمَا عَزَفُوا عَنِ الدُّنْيَا بِقُلُوبِهِمْ، وَجَعَلُوا هَمَّهُمُ الآخِرَةَ، فَهَذَا بَيْتُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفُ البُيُوتِ وَأَعْظَمُهَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، روى الشيخان عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَارٌ.

قَالَ: قُلْتُ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟

قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهَا، فَيَسْقِينَاهُ.

وَقَدْ دَخَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظَاً (وَرَقُ شَجَرٍ يُدْبَغُ بِهِ) مَضْبُورَاً (مَسْكُوبَاً) وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبَاً مُعَلَّقَةً (الجُلُودُ التي لَمْ تُدْبَغْ) فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَيْتُ.

فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكَ؟».

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ،.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا، وَلَكَ الْآخِرَةُ» رواه الشيخان.

هَمُّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ الآخِرَةُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ، أَثَّرَ في نُفُوسِ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ حَتَّى زَهِدُوا في الدُّنْيَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى زِيَادَةِ إِيمَانِهِمْ حَتَّى يَصِلُوا إلى مَقَامِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ».

لَقَدْ كَانَ هَمُّهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ الآخِرَةَ، أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهَا بِسَلَامٍ وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، لِذَا جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى وَصَلُوا إلى مَرْتَبَةِ المُؤْمِنِينَ بِاللهِ تعالى حَقَّاً، وَتَرْجَمُوا عَنْ ذَلِكَ سُلُوكَاً وَعَمَلَاً.

روى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ مَرَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟».

قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنَاً حَقَّاً.

قَالَ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟».

قَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ عَرْشَ رَبِّي بَارِزَاً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا.

قَالَ: «يَا حَارِثَةُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِعُزُوفِ النَّفْسِ عَنِ الدُّنْيَا، وَبِكَثْرَةِ العِبَادَةِ للهِ تعالى مَعَ الإِخْلَاصِ يَتَنَوَّرُ القَلْبُ، وَتَنْجَلِي البَصِيرَةُ، وَإِذَا تَنَوَّرَ القَلْبُ، وَانْجَلَتِ البَصِيرَةُ، رَأَى العَبْدُ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا، وَرَأَى اللهَ في كُلِّ شَيْءٍ، وَصَارَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ يَمْشِي بِهَا بَيْنَ النَّاسِ.

«انْظُرْ مَا تَقُولُ»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ». فَمَا مِنْ قَوْلٍ إِلَّا وَسَنُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.

كُلُّ كَلِمَةٍ سَنُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، فَانْظُرْ إلى الكَلِمَةِ التي تَقُولُهَا، وَاقْرُنِ القَوْلَ بِالبَيِّنَةِ وَالدَّلِيلِ وَالبُرْهَانِ، سَيِّدُنَا حَارِثَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدَّمَ الدَّلِيلَ عَلَى حَقِيقَةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ تعالى إِيمَانَاً حَقَّاً.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ: ﴿إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾. وَلَكِنْ لِيَقُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لِنَفْسِهِ: فَما حَقِيقَةُ إِسْلَامِي؟

لِيَضَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَمِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ ذَهَبَ مِنْ عُمُرِنَا مَا ذَهَبَ، فَهَلْ مِنْ مُدَقِّقٍ عَلَى نَفْسِهِ أَيْنَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾؟

إلى مَتَى هَذَا الضَّيَاعُ؟ إلى مَتَى هَذَا الانْصِرَافُ عَنِ المُتَابَعَةِ الصَّادِقَةِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

لَقَدْ تَطَابَقَتْ أَقْوَالُ وَأَفْعَالُ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا نَحْنُ، فَهَلْ أَقْوَالُنَا تُطَابِقُ أَفْعَالَنَا؟ ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَحَابِّكَ كُلِّهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 1/ ربيع الثاني /1439هـ ، الموافق: 19/كانون الأول / 2017م