23ـ الإنسان في القرآن العظيم :اِلحقْ ركبَ التائبين

 

الإنسان في القرآن العظيم

23ـ اِلحقْ ركبَ التائبين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ بِشَكْلٍ عَامٍّ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَتَغْلِبُهُ شَهْوَتُهُ العَاجِلَةُ، وَدُنْيَاهُ الحَاضِرَةُ، فَمَا مِنَّا إِلَّا وَلَهُ ذُنُوبٌ وَخَطَايَا، وَبَعْضُ النَّاسِ تَرَكَ الفَرَائِضَ، وَاجْتَرَأَ عَلَى المُحَرَّمَاتَ وَالكَبَائِرِ؛ الكَثِيرُ مِنَّا مُقَصِّرٌ في مُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ، الكَثِيرُ مِنَّا في حَالَةِ غَفْلَةٍ عَنِ اللهِ تعالى، الكَثِيرُ مِنَّا مُقَصِّرٌ في حَقِّ اللهِ تعالى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾.

وَلَكِنْ إلى مَتَى؟ هَلْ سَنَبْقَى عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ؟ هَلْ سَنَبْقَى وَاقِفِينَ أَمَامَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ» دُونَ المُسَارَعَةِ إلى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»؟ رواه الحاكم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتُوبَ إلى اللهِ تعالى مِنْ تَرْكِ الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ، وَأَنْ نَتُوبَ إلى اللهِ تعالى مِنِ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا وَالآثَامِ، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتُوبَ إلى اللهِ تعالى تَوْبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً خَالِصَةً للهِ تعالى، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَخَلَّصَ مِنَ الحُقُوقِ التي في ذِمَمِنَا وَنَتَحَلَّلَ مِنَ المَظَالِمِ، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتُوبَ تَوْبَةَ الرِّجَالِ الذينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ تعالى عَلَيْهِ، لَا تَوْبَةَ العَاجِزِينَ الذينَ نَقَضُوا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتُوبَ إلى اللهِ تعالى قَبْلَ المَمَاتِ.

أَهَمُّ شُرُوطِ التَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَرَادَ الفَلَاحَ وَالنَّجَاحَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ النَّصُوحِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُحَقِّقَ شُرُوطَهَا، وَمِنْ أَهَمِّ شُرُوطِهَا أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ تعالى، لَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ تَائِبٌ، لِأَنَّهُ مَنْ تَابَ لِيُقَالَ عَنْهُ تَائِبٌ، يُقَالُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ: «فَقَدْ قِيلَ» فَمَاذَا عَمِلْتَ للهِ تعالى؟

يَجِبُ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ تعالى، وَخَوْفَاً مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى، لَا خَوْفَاً مِنْ مَخْلُوقٍ، لَا خَوْفَاً مِنْ نِظَامٍ وَقَانُونٍ، لَا خَوْفَاً عَلَى سُوءِ سُمْعَةٍ وَجَاهٍ، وَطَرْدٍ مِنَ الوَظِيفَةِ وَالعَمَلِ، لَا خَوْفَاً مِنْ أَمْرَاضٍ؛ وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلَاً صَالِحَاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً﴾.

مُتَمَنِّي المَعْصِيَةِ كَفَاعِلِ المَعْصِيَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، هُنَاكَ مَنْ يَتَمَنَّى فِعْلَ المَعْصِيَةِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ قَادِرَاً عَلَيْهَا، إِمَّا لِضَعْفٍ عِنْدَهُ، أَو لِأَنَّ أَسْبَابَ المَعْصِيَةِ لَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُ؛ فَمَنْ تَمَنَّى المَعْصِيَةَ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ وَلَمْ يَقْتَرِفْهَا لِعَجْزٍ، أَو لِعَدَمِ تَيَسُّرِ الأَسْبَابِ، فَهُوَ كَمَنْ فَعَلَ المَعْصِيَةَ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالَاً وَعِلْمَاً فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقَّاً، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ؛ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمَاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالَاً فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالَاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ؛ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالَاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمَاً، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقَّاً، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ؛ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالَاً وَلَا عِلْمَاً فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالَاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

مُفَارَقَةُ قُرَنَاءِ السُّوءِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّا يُعِينُ العَبْدَ عَلَى التَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ، مُصَاحَبَةُ التَّائِبِينَ، وَقَطْعُ الصِّلَةِ مَعَ الغَافِلِينَ المُذْنِبِينَ المُصِرِّينَ عَلَى الذَّنْبِ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» رواه الإمام أحمد والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَهَذَا مَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ العُلَمَاءُ العَامِلِونَ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ صِدْقَ التَّوْبَةِ، وَذَلِكَ للحَدِيثِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسَاً يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ.

فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ المَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبَاً مُقْبِلَاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرَاً قَطُّ.

فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ».

قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا، أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ المَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ (أَيْ: نَهَضَ وَتَقَدَّمَ لِيَقْرُبَ بِذَلِكَ إِلى الأَرْضِ الصَّالِحَةِ).

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى قَوْلُهُ تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾. فَالسَّعِيدُ المُوَفَّقُ الذي لَحِقَ رَكْبَ التَّائِبِينَ قَبْلَ نِهَايَةِ أَجَلِهِ، وَسَمِعَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.

جَاءَ في كِتَابِ سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ: عَنِ الفَضْلِ بنِ مُوْسَى قَالَ: كَانَ الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ شَاطِرَاً يَقْطَعُ الطَّرِيْقَ بَيْنَ أَبِيوَرْدَ وَسَرْخَسَ، وَكَانَ سَبَبُ تَوْبَتِهِ أَنَّهُ عَشِقَ جَارِيَةً، فَبَيْنَا هُوَ يَرْتَقِي الجُدْرَانَ إِلَيْهَا، إِذْ سَمِعَ تَالِيَاً يَتْلُو: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.

فَلَمَّا سَمِعَهَا، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَدْ آنَ.

فَرَجَعَ، فَآوَاهُ اللَّيْلُ إِلَى خَرِبَةٍ، فَإِذَا فِيْهَا سَابِلَةٌ (أَيْ: طَرِيقٌ مَسْلُوكَةٌ فِيهَا نَاسٌ) فَقَالَ بَعْضُهُم: نَرحَلُ.

وَقَالَ بَعْضُهُم: حَتَّى نُصْبِحَ، فَإِنَّ فُضَيْلَاً عَلَى الطَّرِيْقِ يَقْطَعُ عَلَيْنَا.

قَالَ: فَفَكَّرْتُ، وَقُلْتُ: أَنَا أَسْعَى بِاللَّيْلِ فِي المَعَاصِي، وَقَوْمٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ هَا هُنَا يَخَافُونِي، وَمَا أَرَى اللهَ سَاقَنِي إِلَيْهِم إِلَّا لِأَرْتَدِعَ، اللَّهُمَّ إِنِّيْ قَدْ تُبْتُ إِلَيْكَ، وَجَعَلْتُ تَوْبَتِي مُجَاوَرَةَ البَيْتِ الحَرَامِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصِدْقِ التَّوْبَةِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 30/ ربيع الثاني /1439هـ، الموافق: 17/ كانون الثاني / 2018م