606ـ خطبة الجمعة: حقوق الجار

 

606ـ خطبة الجمعة: حقوق الجار

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد عَظَّمَ شَرْعُنَا الشَّرِيفُ حَقَّ الجَارِ، وَظَلَّ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُوصِي سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالجَارِ، حَتَّى ظَنَّ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشَّرْعَ سَيَأْتِي بِتَوْرِيثِ الجَارِ، فَقَالَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، الحَبِيبُ المَحْبُوبُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَهَذِهِ وَصِيَّةُ اللهِ تعالى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً وَبِذِي الْقُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالَاً فَخُورَاً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَحَدٌ مِنَ البَشَرِ عَظَّمَ حَقَّ الجَارِ، كَمَا عَظَّمَهُ اللهُ تعالى، وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَوجَدُ تَشْرِيعٌ يُعْطِي الجَارَ حَقَّهُ كَمَا يُعْطِيهِ شَرْعُنَا الشَّرِيفُ.

اسْمَعُوا يَا عِبَادَ اللهِ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ـ وفي رِوَايَةٍ: فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ ـ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

بَلْ جَعَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَحَبَّةَ الخَيْرِ للجَارِ مِنْ عَلَامَاتِ كَمَالِ الإِيمَانِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ ـ أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ ـ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَالذي يُحْسِنُ لِجَارِهِ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَخَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ تعالى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ».

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ هَذَا قَالَ الآبَاءُ وَالأَجْدَادُ: الجَارُ قَبْلَ الدَّارِ؛ وَعَلَى قَدْرِ الجَارِ يَكُونُ ثَمَنُ الدَّارِ؛ وَالجَارُ الصَّالِحُ مِنَ السَّعَادَةِ.

مِنْ حُقُوقِ الجَارِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ يُوقِنُ بِأَنَّهُ مَسْؤُولٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالتي مِنْ جُمْلَتِهَا حَقُّ الجَارِ، اسْمَعْ إلى إِرْشَادِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَقِّ الجَارِ، وَاحْذَرْ مُخَالَفَتُهُ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى في حَقِّ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

أولاً: احْذَرْ إِيذَاءَ جَارِكَ، فَإِنْ كَانَ الإِيذَاءُ حَرَامَاً شَرْعَاً بِنَصِّ القُرْآنِ الكَرِيمِ ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانَاً وَإِثْمَاً مُبِينَاً﴾ فَإِنَّ حُرْمَتَهُ تَشْتَدُّ إِذَا كَانَ مُتَوَجِّهَاً إلى الجَارِ.

روى الإمام الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فُلَانَةَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا.

فَقَالَ: «لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ فِي النَّارِ».

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».

وروى الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إِلَيْهِ جَارَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ جَارِي يُؤْذِينِي.

فَقَالَ: «أَخْرِجْ مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ».

فَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟

قَالَ: إِنِّي شَكَوْتُ جَارِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَنِي أَنْ أُخْرِجَ مَتَاعِي فَأَضَعَهُ عَلَى الطَّرِيقِ؛ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، اللَّهُمَّ اخْزِهِ.

قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَاهُ؛ فَقَالَ: ارْجِعْ فَوَاللهِ لَا أُؤْذِيكَ أَبَدَاً.

وفي رِوَايَةٍ للحاكم أَيْضَاً: فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ بِهِ فَيَلْعَنُونَهُ؛ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ.

قَالَ: «وَمَا لَقِيتَهُ مِنْهُمْ؟».

قَالَ: يَلْعَنُونِي.

قَالَ: «فَقَدْ لَعَنَكَ اللهُ قَبْلَ النَّاسِ».

ثانياً: تَحَمَّلْ أًَذَى جَارِكَ مِنْ أَجْلِ وَصِيَّةِ اللهِ تعالى، وَوَصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَحَمُّلُ أَذَى الجَارِ مِنْ شِيَمِ الرِّجَالِ، مِنْ شِيَمِ الكِرَامِ، مِنْ شِيَمِ ذَوِي المُرُوءَاتِ، مِنْ شِيَمِ أَصْحَابِ الهِمَمِ العَلِيَّةِ.

قَدْ يَسْتَطِيعُ أَكْثَرُنَا كَفَّ الأَذَى عَنْ جَارِهِ، وَلَكِنَّ الذي يَتَحَمَّلُ أَذَاهُمْ، فَهَذَا صَاحِبُ مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ، وَدَرَجَةٍ رَفِيعَةٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَيْسَ حُسْنُ الجِوَارِ كَفُّ الأَذَى، حُسْنُ الجِوَارِ الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى.

ثالثاً: سَتْرُ الجَارِ وَصِيَانَةُ عِرْضِهِ، وَهَذَا مِنْ أَوْكَدِ حُقُوقِ الجَارِ، لِأَنَّ الجَارَ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى بَعْضِ عَوْرَاتِ جِيرَانِهِ، فَيَنْبَغِي عَلَى الجَارِ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى سَتْرِ جَارِهِ، مُسْتَحْضِرَاً قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. هَذَا بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَكَيْفَ بِسِتْرِ الجَارِ بَعْدَ نُصْحِهِ؟

وَكَانَ العَرَبُ يَفْتَخِرُونَ بِصِيَانَةِ أَعْرَاضِ جِيرَانِهِمْ حَتَّى في الجَاهِلِيَّةِ؛ فَهَذَا عَنْتَرَةُ يَقُولُ:

وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي   ***   حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي مَأْوَاهَا

وَأَمَّا في الإِسْلَامِ، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ:

مَـا ضَـرَّ جَـارِيَ إِذْ أُجَــــاوِرُهُ   ***   أَنْ لَا يَــــكُونَ لِبَابِهِ سَتْرُ

أَغُضُّ طَرْفِيَ إِذْ مَا جَارَتِي بَرَزَتْ   ***   حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: بِكُلِّ أَسَفٍ شِكَايَةُ الجِوَارِ كَثِيرَةٌ، وَكَثِيرَةٌ جِدَّاً، جَارٌ يَشْكُو مِنْ خِيَانَةِ جَارِهِ لِعِرْضِهِ، جَارٌ يَشْكُو مِنْ خِيَانَةِ جَارِهِ لِمَالِهِ، جَارٌ يَشْكُو مِنْ خِيَانَةِ جَارِهِ لِأَوْلَادِهِ وَبَنَاتِهِ، جَارٌ يَشْكُو مِنْ جَارِهِ لِإِلْقَاءِ أَكْيَاسِ القُمَامَةِ أَمَامَ بَيْتِهِ، وَجَارٌ يَشْكُو مِنْ جَارِهِ مِنَ المَاءِ الذي يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ جَارِهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيْنَ المُتَنَافِسُونَ لِتَحْقِيقِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ»؟

تَنَافَسُوا في الإِحْسَانِ لِجِوَارِكُمْ، فَإِنْ أَسَاءَ جَارُكَ فَلَا تُقَابِلِ الإِسَاءَةَ بِالإِسَاءَةِ، فَأَنْتَ الرَّابِحُ في صَبْرِكَ عَلَى أَذَى جَارِكَ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَهُوَ خَاسِرٌ دُنْيَا وَأُخْرَى.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الرَّابِحِينَ بِالإِحْسَانِ لِجِيرَانِنَا، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الخَاسِرِينَ بِالإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 15/ شوال /1439هـ، الموافق: 29/ حزيران / 2018م