52ـ اطلاعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الأمور القلبية

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

52ـ اطلاعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الأمور القلبية

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: الوَجْهُ الثَّامِنُ: اطِّلَاعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأُمُورِ القَلْبِيَّةِ وَإِجَابَتُهُ السَّائِلَ قَبْلَ سُؤَالِهِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدَّاً:

فَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئَاً مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَقَالَ لِي: «ادْنُ يَا وَابِصَةُ».

فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ، فَقَالَ: «يَا وَابِصَةُ، أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ، أَوْ تَسْأَلُنِي؟».

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخْبِرْنِي.

قَالَ: «جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ.

فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي، وَيَقُولُ: «يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ».

الوَجْهُ التَّاسِعُ: بَشَائِرُهُ الغَيْبِيَّةُ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: وَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي، فَقَالَ: «يَعِيشُ هَذَا الْغُلَامُ قَرْنَاً» فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ.

وَكَانَ فِي وَجْهِهِ ثُؤْلُولٌ، فَقَالَ: «لَا يَمُوتُ هَذَا حَتَّى يَذْهَبَ الثُّؤْلُولُ مِنْ وَجْهِهِ» فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى ذَهَبَ. قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَزَّارُ وَرِجَالُ أَحَدِ إِسْنَادَيِ البَزَّارِ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ الحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ الحَضْرَمِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ. اهـ.

ذِكْرَى حَوْلَ الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ: وَهِيَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً * إِلَّا مَنِ ارْتَـضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَاً﴾.

فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّهُ هُوَ الذي يَعْلَمُ الغَيْبَ المُطْلَقَ عِلْمَاً ذَاتِيَّاً لَا نِهَايَةَ لَهُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ . . ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدَاً﴾. الآيَةَ.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾. الآيَةَ.

وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ، فَيُطْلِعُهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الغَيْبِ حَسْبَ الحِكْمَةِ الإِلَهِيَّةِ.

فَقَدْ أَطْلَعَ سُبْحَانَهُ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى بَعْضِ المُغَيَّبَاتِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ وَحُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ، قَالَ تعالى: ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.

فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُطْلِعُ رُسُلَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ المُغَيَّبَاتِ، بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ بَيِّنَةً عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمْ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ آلَاتٍ، وَلَا بِتَدَخُّلِ أَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ، أَو دَلَالَةِ عَلَامَاتٍ عَرَفِيَّةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ إِنْبَاءِ الغَيْبِ الإِلَهِيِّ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ عِلْمَ التَّنْجِيمِ، وَعِلْمَ الفَلَكِ، وَعِلْمَ الإِرْصَادَاتِ الجَوِيَّةِ، وَنَحْوَهَا مِنَ العُلُومِ التي تُسْتَنْتَجُ مِنْهَا بَعْضُ المَعْلُومَاتِ الخَفِيَّةِ، فَإِنَّهَا مَنُوطَةٌ بِأُصُولٍ عِلْمِيَّةٍ، وَمَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوَاعِدَ وَضَوَابِطَ عَرَفِيَّةٍ عَادِيَّةٍ، تُعْطِي تِلْكَ النَّتَائِجَ الخَفِيَّةَ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهَا مِنْ بَابِ العِلْمِ بِالمُغَيَّبَاتِ أَصْلَاً، إِذْ أَنَّ عِلْمَ الغَيْبِ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَاً عَنِ المَوَادِّ وَالوَسَائِطِ الكَوْنِيَّةِ، وَالأَسْبَابِ العَادِيَّةِ، وَالعَلَامَاتِ العَرَفِيَّةِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ المُحَقِّقُونَ.

إِذْ لَا يُقَالُ للطَّبِيبِ الذي يَتَعَرَّفُ مِنْ مِقْيَاسِ النَّبْضِ عَلَى قُوَّةِ القَلْبِ وَضَعْفِهِ، وَالذي يَتَعَرَّفُ بِجَسِّ المَرِيضِ وَفَحْصِهِ الطِّبِّيِّ عَلَى مَرَضِهِ الخَفِيِّ، لَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ العِلْمِ الغَيْبِيِّ.

كَمَا أَنَّ العَالِمَ الفَلَكِيَّ الذي يَتَعَرَّفُ بِالإِرْصَادَاتِ وَالمَقَايِيسِ الجَوِّيَّةِ، إِلى التَّغَيُّرَاتِ الحَارَّةِ وَالبَارِدَةِ وَنَحْوِهَا، لَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ.

ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً * إِلَّا مَنِ ارْتَـضَى مِنْ رَسُولٍ﴾. الآيَةَ. هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تعالى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾. الآيَةَ.

لِأَنَّ المَنْفِيَّ في هَذِهِ الآيَةِ هُوَ عِلْمُ الغَيْبِ المُطْلَقِ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَالمَعْنَى: لَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ الغَيْبَ المُطْلَقَ المُحِيطَ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّيَّاً وَجُزْئِيَّاً، فَإِنَّ ذَلِكَ للهِ تعالى وَحْدَهُ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ تعالى عَنْ نُوحٍ على نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾. الآيَةَ.

أَو المُرَادُ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ الغَيْبَ إلَّا أَنْ يُعْلِمَنِي اللهُ تعالى، وَيُطْلِعَنِي عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الغَيْبِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 25/شوال /1439هـ، الموافق: 9/ تموز / 2018م