16ـ بر الوالدين: رحمة الوالدين

 

بر الوالدين

16ـ رحمة الوالدين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مُوجِبَاتِ البِرِّ للوَالِدَيْنِ، مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الوَالِدَانِ مِنْ رَحْمَةٍ وَشَفَقَةٍ وَإِحْسَانٍ عَلَى الأَوْلَادِ ـ خَاصَّةً وَهُمْ صِغَارٌ ـ بَلْ إِنَّ ذَلِكَ يَبْدَأُ قَبْلَ وُجُودِ الأَوْلَادِ، وَالوَالِدَانِ مَفْطُورَانِ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى يَكْبُرَ الأَوْلَادُ وَيَسْعَدَ بِهِمُ الآبَاءُ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنَاً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرَاً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

فَفِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ جَعَلَ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَادَهُ قِسْمَيْنِ:

القِسْمُ الأَوَّلُ: هُمُ الذينَ اتَّبَعُوهُ، وَسَارُوا عَلَى نَهْجِهِ، وَأَطَاعُوا رَبَّهُمْ، فَهَؤُلَاءِ مِنْهُ: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾.

وَالقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الذينَ عَصَوْهُ، وَخَالَفُوا أَمْرَهُ، وَلَمْ يُطِيعُوهُ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّ عَنْهُمْ، بَلْ وَكَلَ أَمْرَهُمْ إلى الغَفُورِ الرَّحِيمِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. حَيْثُ عَلَّقَ أَمْرَهُمْ عَلَى المَشِيئَةِ، وَذَكَرَ المَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ التي تَتَضَمَّنُ الرَّحْمَةَ بِهِمْ وَالمَغْفِرَةَ لَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ رَبَّهُ تعالى بِصِفَاتِ الجَلَالِ.

وَهَذَا شَأْنُ الرُّحَمَاءِ مِنَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَمَا صَدَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الذي صَدَرَ عَنِ الأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ بِمَثَابَةِ الآبَاءِ لَهُمْ، بَلْ أَوْلَى مِنَ الآبَاءِ بِهِمْ، فَقَدْ قَالَ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾. حَيْثُ عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى المَشِيئَةِ، وَلَمْ يَطْلُبْ هَلَاكَهُم أَيْضَاً.

وَلَمَّا قَرَأَ نَبِيُّنَا المُصْطَفَى الكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ الكَرِيمَتَيْنِ، بَكَى ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي» فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ ـ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ ـ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟

فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ ـ وَهُوَ أَعْلَمُ ـ فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ. رواه الإمام مسلم.

كَيْفَ لَا، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الرَّحْمَةُ المُهْدَاةُ، وَالرَّحْمَةُ للعَالَمِينَ، وَالرَّحِيمُ بِهَذِهِ الأُمَّةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

رَحْمَةُ الأَبِ بِالوَلَدِ تُوَلِّدُ الاسْتِقْرَارَ النَّفْسِيَّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأَبُ النَّاجِحُ في تَرْبِيَتِهِ هُوَ الأَبُ الرَّحِيمُ العَطُوفُ بِأَبْنَائِهِ وَأُسْرَتِهِ، الذي يَمْنَحُهُمُ الحُبَّ وَالعَطْفَ وَالحَنَانَ، وَيَشْمَلُهُمْ بِرِعَايَتِهِ، وَيَحْتَوِيهِمْ بِقَلْبِهِ الكَبِيرِ، وَيَشْعُرُونَ مَعَهُ بِالسَّعَادَةِ وَالأَمَانِ.

أَمَّا الأَبُ القَاسِي فَهُوَ المُتَسَبِّبُ الأَوَّلُ في الأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ لَدَى أَبْنَائِهِ، وَالمُشَجِّعُ الأَوَّلُ عَلَى الأَمْرَاضِ القَلْبِيَّةِ لَهُمْ مِنْ غِلٍّ وَحِقْدٍ وَحَسَدٍ وَحُبِّ ذَاتٍ وَغَيْرِهِا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَبَاً نَاجِحَاً لِيَرَى أَوْلَادَهُ بَرَرَةً بِهِ، وَيَرَوْا مِنْهُ الشَّفَقَةَ وَالرَّحْمَةَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَأَسَّى بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ رَوَى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِنَا، قَالَ: فَتُلُقِّيَ بِي وَبِالْحَسَنِ أَوْ بِالْحُسَيْنِ؛ قَالَ: فَحَمَلَ أَحَدَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْآخَرَ خَلْفَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا المَدِينَةَ.

وروى ابن ماجه عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، أَنَّ يَعْلَى بْنَ مُرَّةَ، حَدَّثَهُمْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي السِّكَّةِ، قَالَ: فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمَامَ الْقَوْمِ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَفِرُّ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَيُضَاحِكُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقْنِهِ، وَالْأُخْرَى فِي فَأْسِ رَأْسِهِ (هُوَ طَرَفُ مُؤَخَّرِهِ المُشْرِفِ عَلَى القَفَا) فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: «حُسَيْنٌ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنَاً، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الأَسْبَاطِ».

وروى الإمام البخاري عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هُنَاكَ مِنَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ مَنْ لَا يُرَاعِي الرَّحْمَةَ مَعَ أَبْنَائِهِ، وَلَا الرِّقَّةَ في مُعَامَلَتِهِمْ، فَيَكُونُ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الغُرَبَاءِ، فَيَتْرُكُ في أَنْفُسِهِمْ جُرُوحَاً غَائِرَةً لَا تَزُولُ وَلَا بِمُرُورِ السِّنِينَ.

روى الإمام البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسَاً.

فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدَاً.

فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مُوجِبَاتِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ رَحْمَةُ الوَالِدَيْنِ وَشَفَقَتُهُمَا عَلَى الأَبْنَاءِ؛ فَهَلْ عِنْدَنَا الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ عَلَى أَبْنَائِنَا حَتَّى يَكُونُوا بَرَرَةً بِنَا؟

وَمِنَ الرَّحْمَةِ بِالوَلَدِ أَنْ تَجْلِبَ لَهُمْ كُلَّ نَفْعٍ، وَأَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ كُلَّ ضُرٍّ، الرَّحْمَةُ الصَّحِيحَةُ بِالوَلَدِ تَـقْتَضِي إِيصَالَ المَنَافِعِ وَالمَصَالِحِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَرِهَتْهَا نَفْسُهُ وَشَقَّتْ عَلَيْهِ، فَأَرْحَمُ النَّاسِ بِكَ مَنْ أَخَذَ بِكَ إلى مَا يُصْلِحُكَ، وَإِنْ كَرِهَتْ ذَلِكَ نَفْسُكَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ارْحَمُوا أَبْنَاءَكُمْ لِتَرَوْا مِنْهُمُ البِرِّ، ارْحَمُوا أَبْنَاءَكُمْ لِتَرَوْا ثَمَرَةَ رَحْمَتِكُمْ في شَيْخُوخَتِكُمْ، قَدِّمُوا لَهُمْ كُلَّ مَا يُصْلِحُهُمْ، وَأَبْعِدُوا عَنْهُمْ كُلَّ مَا يُفْسِدُهُمْ بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 2/ ذو القعدة /1439هـ، الموافق: 15/ تموز / 2018م