34ـالإنسان في القرآن العظيم : ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ (2)

 

الإنسان في القرآن العظيم

34ـ ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا مُسَافِرُونَ مِنْهَا، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدَاً حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ. رواه الإمام البخاري.

وَهَذِهِ الرِّحْلَةُ تَحْتَاجُ إلى زَادٍ، وَلَا يَكُونُ الزَّادُ إلى الآخِرَةِ إِلَّا مِنَ الدُّنْيَا، وَخَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى، وَتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ وَتِلَاوَةٍ للقُرْآنِ العَظِيمِ، وَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى تَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَصَلَاةٍ وَسَلَامٍ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ تَشْمَلُ جَمِيعَ شُؤُونِ العَبْدِ، تَشْمَلُ أَقْوَالَهُ، وَأَفْعَالَهُ، وَبَيْعَهُ وَشِرَاءَهُ، وَتَشْمَلُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، فَالسَّعِيدُ مَنِ اتَّقَى اللهَ تعالى في أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، فَفَعَلَ المَأْمُورَ وَتَرَكَ المَحْظُورَ في جَمِيعِ شُؤُونِهِ.

الدُّنْيَا مَزْرَعَةٌ للآخِرَةِ، وَفِيهَا التَّقْوَى التي هِيَ زَادُ المُؤْمِنِ لِآخِرَتِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.

مَا هِيَ التَّقْوَى؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَقِيقَةُ التَّقْوَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ سَخَطِ اللهِ تعالى وِقَايَةً، وَقَدْ عَرَّفَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ﴾. قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ. / كَذَا في نَضْرَةِ النَّعِيمِ.

وَيَقُولُ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: التَّقْوَى عَمَلٌ بِطَاعَةِ اللهِ، رَجَاءَ رَحْمَةِ اللهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعْصِيَةِ اللهِ، مَخَافَةَ عِقَابِ اللهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ. رواه ابن أبي شيبة.

وَعَرَّفَهَا سَيِّدُنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عِنْدَمَا سَأَلَهُ رَجُلٌ: مَا التَّقْوَى؟

قَالَ: أَخَذْتَ طَرِيقَاً ذَا شَوْكٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعْتَ؟

قَالَ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّوْكَ عَدَلْتُ عَنْهُ أَوْ جَاوَزْتُهُ أَوْ قَصُرْتُ عَنْهُ.

قَالَ: ذَاكَ التَّقْوَى.

أَرْكَانُ التَّقْوَى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَرْكَانُ التَّقْوَى ثَلَاثَةٌ:

أولاً: أَن يُطَاعَ اللهُ فَلَا يُعْصَى؛ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ اللهَ تعالى فَلَا نَعْصِيهِ مَا اسْتَطَعْنَا إلى ذَلِكَ سَبِيلَاً، وَلَا يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مَعْصُومِينَ، لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِأَحَدٍ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدِ انْتَهَى زَمَنُ العِصْمَةِ بِانْتِقَالِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا.

بَلْ يَعْنِي أَنْ نَتُوبَ إلى اللهِ تعالى وَأَنْ نَسْتَغْفِرَهُ بَعْدَ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَأَنْ لَا نُصِرَّ عَلَى المَعْصِيَةِ، وَهَذَا هُوَ وَصْفُ المُتَّقِينَ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

التَّقِيُّ قَد تَزِلُّ قَدَمُهُ، وَلَكِنَّ الفَارِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّقِيِّ أَنَّ التَّقِيَّ لَا يُصِرُّ، وَالشَّقِيُّ مُـصِرٌّ، التَّقِيُّ إِنْ زَلَّتْ قَدَمُهُ وذَكِّرَ باللهَ تعالى تَذَكَّرَ، وَالشَّقِيُّ لَا يَتَذَكَّرُ، التَّقِيُّ إِنْ زَلَّت قَدَمُهُ فَوُعِظَ اتَّعَظَ، وَالشَّقِيُّ لَا يَتَّعِظُ، التَّقِيُّ إِنْ زَلَّتْ قَدَمُهُ وذَكِّرَ بِالآخِرَةَ تَذَكَّرَ وَخَافَ، وَالشَّقِيُّ يَسْتَخِفُّ وَيَسْتَعْلِي وَيَسْتَكْبِرُ.

التَّقِيُّ يُطِيعُ رَبَّهُ فَلَا يَعْصِيهِ، وَمِنْ طَاعَتِهِ أَنْ يَتُوبَ وَيَؤُوبَ بَعْدَ الذَّنْبِ بِالذُّلِّ وَالانْكِسَارِ لِحَضْرَةِ مَوْلَاهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْتَحْضِرُ قَوْلَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحَاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورَاً رَحِيمَاً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابَاً﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾.

فَمَهْمَا زَلَّتْ قَدَمُكَ يَا عَبْدَ اللهِ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى الذينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ تعالى ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾. وَيُحِبُّ المُتَّقِينَ ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾. وَالمُتَّقِي تَوَّابٌ، وَاللهُ لَا يَمَلُّ حَتَّى يَمَلَّ العَبْدُ.

ثانياً: أَنْ يُذْكَرَ اللهُ فَلَا يُنْسَى؛ فَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تعالى قَلَّتْ مَعَاصِيهِ، اذْكُرِ اللهَ عِنْدَمَا تُصَلِّي، وَاذْكُرِ اللهَ عِنْدَمَا تَتَحَدَّثُ مَعَ زَوْجَتِكَ، وَاذْكُرِ اللهَ عِنْدَ بَيْعِكَ وَشِرَائِكَ، اذْكُرِ اللهَ وَأَنْتَ في مَصْنَعِكَ، وَاذْكُرِ اللهَ وَأَنْتَ في جَامِعَتِكَ، وَاذْكُرِ اللهَ وَأَنْتَ في الشَّارِعِ، وَاذْكُرِ اللهَ في سَائِرِ أَحْوَالِكَ، فَمَنْ ذَكَرَهُ كَانَ مَعَهُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ كَانَ مُسَدَّدَاً وَمُؤَيَّدَاً.

فَمَا مِنْ مَعْصِيَةٍ للهِ تعالى إِلَّا في سَاعَةِ غَفْلَةٍ عَنِ اللهِ تعالى، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

ثالثاً: أَنْ يُشْكَرَ اللهُ تعالى فَلَا يُكْفَرُ؛ فَمَنْ شَكَرَ اللهَ تعالى عَلَى نِعَمِهِ كَانَ تَقِيَّاً، وَنِعَمُ اللهِ كَثِيرَةٌ تَحْتَاجُ إلى شُكْرٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.

فَاعْرِفْ يَا عَبْدَ اللهِ قَدْرَ النِّعْمَةِ وَفَضْلَهَا، وَأَعْظَمُ نِعَمِ اللهِ تعالى هِيَ نِعْمَةُ الإِيمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَغَيْرُكَ حُرِمَ هَذِهِ النِّعْمَةَ فَكَانَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَسَيْطَرَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ فَدَعَاهُ إلى مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، وَسَارَ عَلَى وَجْهِهِ مُتَخَبِّطَاً نَاسِيَاً الآخِرَةَ التي تَنْتَظِرُهُ.

اشْكُرِ اللهَ تعالى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ نِعْمَةِ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ وَالقُرْآنِ وَسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَاحْمَدِ اللهِ تعالى أَنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

فَكِّرْ في جَمِيعِ النِّعَمِ، وَانْطَلِقْ للتَّعَامُلِ مَعَهَا مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَهْلُ التَّقْوَى هُمُ المَحْبُوبُونَ عِنْدَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾. أَهْلُ التَّقْوَى هُمْ أَهْلُ السَّدَادِ وَالتَّوْفِيقِ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾. ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرَاً﴾.

أَهْلُ التَّقْوَى هُمْ في جَنَّاتٍ ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾. ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ المُتَّقِينَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 12/ ذو القعدة /1439هـ، الموافق: 25/ تموز / 2018م