12ـ بر الوالدين :موجبات بر الوالدين (1)

 

بر الوالدين

12ـ موجبات بر الوالدين (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ لِاسْتِحْقَاقِ الوَالِدَيْنِ البِرَّ وَالإِحْسَانَ وَالتَّكْرِيمَ وَالتَّقْدِيرَ، أَسْبَابَاً ذَكَرَهَا اللهُ تعالى في كِتَابِهِ، وَإِنْ كَانَ للأُمِّ النَّصِيبُ الأَوْفَى مِنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الأَسْبَابُ وَالمُوجِبَاتُ هِيَ:

أولاً: الحَمْلُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأُمُّ تَحْمِلُ الجَنِينَ في أَحْشَائِهَا، وَيَتَخَلَّقُ في رَحِمِهَا، وَتُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ في بَطْنِهَا، وَيَكْبُرُ مَعَ الأَيَّامِ، فَيَتَغَذَّى مِنْ دَمِهَا، وَيَتَقَوَّى مِنْ خَالِصِ غِذَائِهَا، وَهِيَ في كُلِّ حَالَاتِهَا في ضَعْفٍ وَكُرْهٍ حَتَّى الوَلَادَةِ، وَالآيَاتُ في بَيَانِ ذَلِكَ:

1ـ فَأَوَّلُ الإِنْسَانِ نُطْفَةٌ يَقْذِفُهَا الرَّجُلُ في رَحِمِ المَرْأَةِ، ثُمَّ تُصْبِحُ هَذِهِ النُّطْفَةُ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً ...

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامَاً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمَاً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقَاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ﴾.

2ـ ثُمَّ يَكُونُ التَّصْوِيرُ بَعْدَ النُّطْفَةِ وَالعَلَقَةِ وَالمُضْغَةِ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

3ـ كُلُّ ذَلِكَ في ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، ظُلْمَةِ البَطْنِ، وَظُلْمَةِ الرِّحِمِ، وَظُلْمَةِ المَشِيمَةِ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقَاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾.

4ـ كَانَ بَدْءُ الحَمْلِ خَفِيفَاً، ثُمَّ كُلَّمَا كَبُرَ ثَقُلَ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلَاً خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.

5ـ وَنَفْخُ الرُّوحِ في الجَنِينِ بَعْدَ مُضِيِّ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمَاً مِنْ حَمْلِهِ.

روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمَاً، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ».

6ـ يَكُونُ الحَمْلُ في وَهَنٍ وَشِدَّةٍ وَكُرْهٍ عَلَى الأُمِّ، حَيْثُ إِنَّهَا كُلَّمَا كَبُرَ الجَنِينُ ثَقُلَتْ بِحَرَكَتِهَا، وَازْدَادَ أَلَمُهَا، وَشَقَّ عَلَيْهَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنَّوْمُ وَالجُلُوسُ، إِضَافَةً إلى مَا تُلَاقِيهِ مِنَ الوِحَامِ خَاصَّةً إِذَا كَانَ شَدِيدَاً، وَاسْتَمَرَّ طَوِيلَاً، مَعَ المَتَاعِبِ النَّفْسِيَّةِ، عَنِ الجَنِينِ نَفْسِهِ، وَعَنْ حَيَاتِهِ، وَعَنْ سَعَادَتِهِ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانَاً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهَاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهَاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرَاً﴾.

وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنَاً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ﴾.

7ـ هَذَا الجَنِينُ ـ سَوَاءُ قَبْلَ تَشَكُّلِهِ أَو بَعْدَهُ ـ مِنْهُ مَا يَسْتَقِرُّ في الرَّحِمِ إلى حِينِ الوِلَادَةِ، وَمِنْهُ مَا يَسْقُطُ قَبْلَ الوِلَادَةِ ـ السَّقَطُ ـ وَمَنْ وُلِدَ وَعَاشَ يَمُوتُ في أَجَلِهِ الذي حَدَّدَهُ اللهُ تعالى لَهُ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلَاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئَاً﴾. إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ.

ثانياً: الوِلَادَةُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مُوجِبَاتِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ، وَخَاصَّةً الأُمَّ، الوِلَادَةُ وَمَا يُرَافِقُهَا مِنْ آلَامٍ وَمَتَاعِبَ، حَيْثُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ خُرُوجُ هَذَا الإِنْسَانِ المَوْلُودِ بِهَذَا الحَجْمِ مِنْ مَكَانٍ ضَيِّقٍ ـ لَوْلَا قُدْرَةُ اللهِ تعالى ـ وَآلَامُ الطَّلْقِ وَالوِلَادَةِ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا مَنْ مَارَسَ ذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، وَلِشِدَّةِ مَا تُلَاقِيهِ المَرْأَةُ أَثْنَاءَ الوِلَادَةِ فَإِنَّ اللهَ تعالى قَدَّرَ لَهَا ذَلِكَ، وَجَعَلَهَا شَهِيدَةً فِيمَا لَو مَاتَتْ وَهِيَ في تِلْكَ الحَالَةِ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانَاً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهَاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهَاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرَاً﴾.

وروى الحاكم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ: المَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الحَرِيقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعٍ (أَيْ: تَمُوتُ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ) شَهِيدَةٌ».

وَفِي رِوَايَةٍ للإمام أحمد: «وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ ـ أَو شَهِيدٌ ـ».

ثالثاً: الرَّضَاعُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مُوجِبَاتِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ، وَخَاصَّةً الأُمَّ، الرَّضَاعُ الذي قَدْ يَسْتَمِرُّ إلى سَنَتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرَاً﴾.

وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾.

وَمَا يُرَافِقُ الرَّضَاعَ مِنِ امْتِصَاصِ غِذَائِهَا، وَسَحْبِ مَا في جَسَدِهَا مِنْ مَعَادِنَ وَمُقَوِّيَاتٍ، إِضَافَةً إلى الآلَامِ، خَاصَّةً في ابْتِدَاءِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الوِلَادَةِ، وَالانْشِغَالِ في الرَّضَاعِ.

بَلْ إِنَّ امْتِصَاصَ الوَلَدِ غِذَاءَهُ مِنْ أُمِّهِ بِمُجَرَّدِ العُلُوقِ بِجِدَارِ الرَّحِمِ، وَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الحَبْلِ السِّرِّيِّ، حَتَّى الوِلَادَةِ.

رابعاً: تَرْبِيَةُ الوَلَدِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مُوجِبَاتِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ تَرْبِيَةُ الوَلَدِ، وَخَاصَّةً في ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ، وَالعِنَايَةُ بِهِ وَهُوَ طِفْلٌ، مِنْ نَظَافَةٍ، وَطَهَارَةٍ، وَغُسْلٍ، وَمَا يَنْتَابُهُ مِنْ آلَامٍ وَأَمْرَاضٍ، وَمَا يَعْتَرِي الوَالِدَيْنِ مِنْ سَهَرٍ وَمَشَقَّةٍ، قَدْ يَصِلُ إلى حَدٍّ لَا يُطَاقُ، وَمِنْ عِنَايَةٍ بِهِ في ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ، وَالآمَالُ المُعَلَّقَةُ عَلَيْهِ، حَيْثُ يَبْدَأُ الانْشِغَالُ بِهَذَا الطِّفْلِ مِنْ سَاعَةِ وِلَادَتِهِ ـ بَلْ مِنْ سَاعَةِ عُلُوقِهِ في الرَّحِمِ ـ هَلْ سَيَكْمُلُ حَمْلُهُ؟ وَهَلْ سَيُولَدُ حَيَّاً؟ وَهَلْ سَتَكُونُ حَوَاسُهُ سَلِيمَةً؟ هَلْ سَيَنْطِقُ؟ هَلْ سَيَكُونُ سَوِيَّ العَقْلِ وَالتَّفْكِيرِ؟ هَلْ هُوَ ذَكِيٌّ أَمْ غَبِيٌّ؟ وَهَلْ، وَهَلْ .... حَتَّى يَكْبُرَ؟ وَلَا يَكْبُرُ حَتَّى تُلَاقِي أُمُّهُ وَأَبُوهُ غَايَةَ العَنَاءِ وَالشَّقَاءِ، وإلى ذَلِكَ الإِشَارَةُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرَاً﴾.

فَهُمَا اللَّذَانِ تَعِبَا في تَرْبِيَتِهِ صَغِيرَاً، وَاعْتَنَيَا بِهِ كَبِيرَاً، وَهَلْ سَيَشْقَيَا أَمْ يَسْعَدَا بِهِ وَهُوَ كَبِيرٌ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَا حَسْرَةً عَلَى الوَلَدِ العَاقِّ لِوَالِدَيْهِ، وَخَاصَّةً لِأُمِّهِ، لَقَدْ نَـسِيَ الإِحْسَانَ وَالفَضْلَ، وَقَابَلَ الإِحْسَانَ بِالإِسَاءَةِ.

أَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا نِعْمَةَ بِرِّ الوَالِدَيْنِ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 6/ شعبان /1439هـ، الموافق: 22/ نيسان / 2018م