137ـ مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم :هي يا ابن الخطاب

 

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

137ـ هي يا ابن الخطاب

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ صِفَةِ الحُكَمَاءِ وَأَخْلَاقِهِمْ الحِلْمُ، وَيُعَرَّفُ الحِلْمُ بِأَنَّهُ ضَبْطُ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ عِنْدَ هَيَجَانِ الغَضَبِ، وَقَدْ أَثْنَى رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى صِفَةِ الحِلْمِ، وَعَلَى المُتَّصِفِينَ بِهِ في الكِتَابِ وَالسُّنَّة كَثِيرَاً، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾.

وَقَالَ تعالى في حَقِّ خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾.

وَقَالَ في وَصْفِ الأَتْقِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾.

وَقَالَ آمِرَاً عِبَادَهُ: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. وَقَالَ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ صِفَةَ الحِلْمِ صِفَةٌ يُحِبُّهَا اللهُ تعالى مِنْ عِبَادِهِ، روى الإمام مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ لِلْأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ».

وَاللهُ تعالى يُعْطِي عَلَى الحِلْمِ الذي هُوَ عَيْنُ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى سِوَاهُ، روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ».

الحِلْمُ مِنَ الرِّفْقِ، وَمَا وُجِدَ في شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ الحَلِيمُ الذي يَضْبِطُ نَفْسَهُ عِنْدَ هَيَجَانِ الغَضَبِ هُوَ إِنْسَانٌ عَاقِلٌ، لِأَنَّهُ يَتَجَرَّعُ الغَيْظَ، وَهُوَ إِنْسَانٌ صَاحِبُ هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وَصَاحِبُ ثِقَةٍ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُحَرِّكُهَا الغَضَبُ، وَهُوَ صَاحِبُ صَدْرٍ وَاسِعٍ، وَلَيِّنُ العَرِيكَةِ، وَثَابِتٌ لَا يَتَزَعْزَعُ، وَهُوَ قَوِيُّ الجَنَانِ، لَا تَسْتَفِزُّهُ بِدَايَةُ الأُمُورِ، وَلَكِنَّهُ يَنْظُرُ إلى عَوَاقِبِهَا وَمَآلَاتِهَا.

يَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَصْلُ الرَّجُلِ عَقْلُهُ، وَحَسَبُهُ دِينُهُ، وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: صِفَةُ الحِلْمِ صِفَةُ كَمَالٍ، وَهِيَ حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ رَذِيلَتَيْنِ، الغَضَبِ وَالبَلَادَةِ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لِغَضَبِهِ بِلَا تَعَقُّلٍ وَلَا تَبَصُّرٍ كَانَ فِعْلُهُ رَذِيلَةً، وَإِنْ تَبَلَّدَ وَضَيَّعَ حَقَّهُ وَرَضِيَ بِالظُّلْمِ كَانَ عَلَى رَذِيلَةٍ، وَإِنْ تَحَلَّى بِالحِلْمِ مَعَ القُدْرَةِ كَانَ فِعْلُهُ فَضِيلَةً.

هِي يَا ابْنَ الخَطَّابِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةَ عَلَى خُلُقِ الحِلْمِ، وَعَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ عِنْدَ الغَضَبِ، وَعَلَى التَّحَلِّي بِأَخْلَاقِ القُرْآنِ الكَرِيمِ لِيَفُوزُوا بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.

هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولَاً كَانُوا أَوْ شُبَّانَاً.

فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ.

قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ.

فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ (الجَزِيلَ العَظِيمَ، وَأَجْزَلْتَ لَهُ العَطَاءَ، أَيْ: أَكْثَرْتَ) وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ.

فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ؛ فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾. وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، وَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافَاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا سَمِعَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ الآيَةَ الكَرِيمَةَ هَدَأَتْ ثَائِرَتُهُ، وَأَعْرَضَ عَنِ الرَّجُلِ الذي أَسَاءَ إِلَيْهِ في خُلُقِهِ عِنْدَمَا اتَّهَمَهُ بِالبُخْلِ، وَفي دِينِهِ عِنْدَمَا اتَّهَمَهُ بِالجَوْرِ في القَسْمِ، وَتِلْكَ التي يَهْتَمُّ لَهَا عُمَرُ، وَيَنْصَبُ، وَمَنْ مِنَّا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ؟ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ للغَضَبِ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ.

مَتَى نَتَجَمَّلُ بِهَذِهِ التَّعَالِيمِ لِنَكُونَ مَثَلَاً قُرْآنِيَّاً نَتَحَرَّكُ وِفْقَ مَا نَقْرَأُ في كِتَابِ اللهِ تعالى الكَرِيمِ؟ مَتَى يَكُونُ خُلُقُنَا القُرْآنُ؟

إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكُم مِنْ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْتَاجُ إلى صِفَةِ الحِلْمِ، وَخَاصَّةً في سَاعَةِ الغَضَبِ عِنْدَ القُدْرَةِ عَلَى الانْتِقَامِ، هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ حِينَ جَاءَ يَوْمَ الجَابِيَةِ ـ قَرْيَةً بِدِمَشْقَ ـ يُوَضِّحُ للنَّاسِ أَسْبَابَ عَزْلِ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَقَالَ: وَإِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، إِنِّي أَمَرْتُهُ أَنْ يَحْبِسَ هَذَا المَالَ عَلَى ضَعَفَةِ المُهَاجِرِينَ، فَأَعْطَاهُ ذَا الْبَأْسِ، وَذَا الشَّرَفِ، وَذَا اللَّسَانَةِ، فَنَزَعْتُهُ، وَأَمَّرْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ.

فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصِ بْنِ المُغِيرَةِ: وَاللهِ مَا أَعْذَرْتَ يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ، لَقَدْ نَزَعْتَ عَامِلَاً اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَغَمَدْتَ سَيْفَاً سَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَوَضَعْتَ لِوَاءً نَصَبَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ قَطَعْتَ الرَّحِمَ، وَحَسَدْتَ ابْنَ الْعَمِّ.

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّكَ قَرِيبُ الْقَرَابَةِ، حَدِيثُ السِّنِّ، مُغْضَبٌ مِنَ ابْنِ عَمِّكَ. رواه الإمام أحمد عَنْ نَاشِرَةَ بْنِ سُمَيٍّ الْيَزَنِيِّ.

مَا أَعْظَمَكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ حِينَ أَوْضَحْتَ مَوْقِفَكَ في عَزْلِ سَيِّدِنَا خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، حَتَّى لَا يُفَسِّرَ أَحَدٌ المَوْقِفَ بِسُوءِ خُلُقٍ مِنْكَ، وَمَا أَعْظَمَكَ عِنْدَمَا اسْتَوْعَبْتَ كَلَامَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ المُغِيرَةِ، وَعِنْدَمَا لَاطَفْتَهُ بِتِلْكَ الكَلِمَاتِ، مَا أَعْظَمَ حِلْمَكَ وَأَخْلَاقَكَ، رَضِيَ اللهُ عَنْكَ وَأَرْضَاكَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحِلْمُ مِنْ أَشْرَفِ الأَخْلَاقِ وَأَحَقِّهَا بِذَوِي الأَلْبَابِ، لِمَا فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ العِرْضِ، وَرَاحَةِ الجَسَدِ، وَاجْتِلَابِ الحَمْدِ، وَالحَلِيمُ إِنْسَانٌ رَحِيمٌ بِالجَاهِلِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الانْتِصَارِ.

يَقُولُ لُقْمَانُ الحَكِيمُ: ثَلَاثَةٌ لَا يُعْرَفُونَ إِلَّا عِنْدَ ثَلَاثَةٍ: لَا يُعْرَفُ الحَلِيمُ إِلَّا عِنْدَ الغَضَبِ، وَلَا الشُّجَاعُ إِلَّا عِنْدَ الحَرْبِ، وَلَا الأَخُ إِلَّا عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيْهِ. أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا بِخُلُقِ الحِلْمِ. آمين.

تاريخ الكلمة:

الخميس: 30/ صفر الخير /1440هـ، الموافق: 8/ تشرين الثاني / 2018م