86ـ صبره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على أذى المشركين

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

86ـ صبره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على أذى المشركين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: صَبْرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَذَى المُـشْرِكِينَ وَتَحَمُّلُهُ الشَّدَائِدَ في سَبِيلِ اللهِ تعالى:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الآيَةَ.

كَانَ صَبْرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سَبِيلِ اللهِ تعالى يَفُوقُ صَبْرَ الصَّابِرِينَ، وَتَحَمُّلُهُ لِأَنْوَاعِ أَذَى المُعَانِدِينَ لَهُ يَعْلُو تَحَمُّلَ العَالَمِينَ، فَكَمْ لَقِيَ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ وَأَشِدَّائِهِمْ مِنَ الغِلْظَةِ وَالسَّفَاهَةِ وَالجَفَاءِ وَالشِّدَّةِ؟! وَلَا رَيْبَ أَنَّ الكَلَامَ البَذِيءَ الـمُسِيءَ لَهُ كِلَامٌ في أَصْحَابِ النُّفُوسِ الأَبِيَّةِ، وَالأَخْلَاقِ الرَّضِيَّةِ، وَيَتَأَثَّرُونَ بِهِ أَضْعَافَ مَا يَتَأَثَّرُ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَإِنَّ الأَفْعَالَ المُؤْذِيَةَ لَتَعَمْلُ في نُفُوسِهِمْ أَضْعَافَ مَا تَعْمَلُ في غَيْرِهِمْ ، مِمَّنْ لَا خَلَاقَ لَهُ وَلَا خُلُقَ، فَمَا ظَنُّكَ بِنَفْسِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ التي هِيَ مَجْمَعُ الكَمَالِ وَالأَفْضَالِ  وَمَصْدَرُهَا؟! وَمَا ظَنُّكَ بِتَأَثُّرِهِ مِنَ الكَلَامِ المُؤْذِي، وَالفِعْلِ المُسِيءِ إِلَيْهِ.

رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ» قَالَ في التَّرْغِيبِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. اهـ.

وَكَانَ الـمُشْرِكُونَ يَتَصَدُّونَ لَهُ بِالعَدَاوَةِ وَيُقَابِلُونَهُ بِأَنْوَاعِ الأَذَى بِجُمُوعِهِمْ وَجَمَاهِيرِهِمْ وَبِأَفْرَادِهِمْ، وَنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ.

رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟

قَالَ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى صَابِئٍ لَهُمْ.

قَالَ: فَنَزَلْنَا فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَهُمْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ وَيُؤْذُونَهُ، حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَانْصَدَعَ النَّاسُ عَنْهُ.

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ قَدْ بَدَا (أَيْ: ظَهَرَ) نَحْرُهَا (أَيْ: صَدْرُهَا) تَحْمِلُ قَدَحَاً وَمِنْدِيلَاً، فَتَنَاوَلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَشَرِبَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ، خَمِّرِي عَلَيْكِ (أَيْ: غَطِّي) نَحْرَكِ، وَلَا تَخَافِي عَلَى أَبِيكِ».

قُلْنَا: مَنْ هَذِهِ؟

قَالُوا: هَذِهِ زَيْنَبُ بِنْتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. قَالَ الحَافِظُ الهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. اهـ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشَاً أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ؟

قَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ فِي الْحِجْرِ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ!

فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ يَمـْشِي حَتَّى اسْتَقْبَلَ الرُّكْنَ، فَمَرَّ بِهِمْ طَائِفَاً بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بَيْنَهُمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ.

قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَـضَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَـضَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا.

ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؟ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ (أَيْ: بِالقَتْلِ)».

فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا لَكَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً (أَيْ: تَوْصِيَةً بِإِيذَائِهِ) قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ (أَيْ: صَارَ يُسَكِّنُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَيَرْفُقُ بِهِ، وَيَتَوَدَّدُ لَهُ خَوْفَاً مِمَّا قَالَهُ لَهُمْ) بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْـصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِدَاً، فَوَاللهِ مَا كُنْتَ جَهُولَاً.

فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ، وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ (أَي: جَاهَرَكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ) بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ!.

وَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَطَافُوا بِهِ، يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ؟

قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ».

قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلَاً مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دُونَهُ يَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلَاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ.

قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَشُدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشَاً بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ.

قَالَ الحَافِظُ الهَيْثَمِيُّ في مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: قُلْتُ: في الصَّحِيحِ طَرَفٌ مِنْهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِالسَّمَاعِ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ. اهـ. مِنَ الجُزْءِ السَّادِسِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 19/ربيع الأول /1440هـ، الموافق: 26/ تشرين الثاني / 2018م