29ـ بر الوالدين :فتنة الأولاد أخطر من فتنة المال

 

بر الوالدين

29ـ فتنة الأولاد أخطر من فتنة المال

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: طَالَمَا أَنَّ الأَوْلَادَ عَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ مَرْدُودَةٌ، وَأَمَانَةٌ يَأْخُذُهَا اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى مَتَى شَاءَ، فَعَلَى الوَالِدَيْنِ المُحَافَظَةُ عَلَيْهِمْ حِفَاظَهُمْ عَلَى الأَمَانَةِ وَالعَارِيَةِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتَتَنَ الوَالِدَانِ بِهِمْ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مَالِكَيْنِ لَهُمَا، إِنَّمَا هُمَا مُسْتَعِيرَانِ لِمُلْكِ غَيْرِهِمْ، وَمُسْتَأْمَنَيْنِ لِعَبِيدِ غَيْرِهِمْ، وَالأَبْنَاءُ مُلْكُ اللهِ وَعَبِيدُهُ، فَلَا يَجُوزُ للوَالِدَيْنِ أَنْ يَطْغَيَا بِهِمْ، لَكِنْ إِذَا غَفَلَ الوَالِدَانِ عَنِ اللهِ تعالى، وَظَنَّا أَنَّهُمَا المَالِكَانِ حَقِيقَةً فَقَدْ طَغَيَا وَفُتِنَا، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالَاً وَأَوْلَادَاً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾.

فَالأَمْوَالُ وَالأَوْلَادُ أَمَانَةٌ وَعَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، فَعَلَى الوَالِدَيْنِ الحِفَاظُ عَلَى هَذِهِ الأَمَانَةِ، لِأَدَائِهَا كَمَا تَسَلَّمَاهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَات المُؤْمِنِينَ؛ أَمَّا الخِيَانَةُ في الأَمَانَةِ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

الأسٍرَةُ هيَ اللَّبِنَةُ الأُولَى في بِنَاءِ كَيَانِ الأُمَّةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الأُسْرَةُ هِيَ أَسَاسُ المُجْتَمَعِ، وَهِيَ اللَّبِنَةُ الأُولَى في بِنَاءِ كَيَانِ الأُمَّةِ، وَالنَّوَاةُ الكُبْرَى في تَشْيِيدِ حَضَارَتِهَا، فَبِنَجَاحِهَا تُقَاسُ سَعَادَةُ المُجْتَمَعِ، وَبِفَشَلِهَا وَسَيْرِهَا في مَزَالِقِ الضَّيَاعِ وَمَهَاوِي الرَّدَى يُقَاسُ إِخْفَاقُ المُجْتَمَعُ وَتَقَهْقُرُ الأُمَّةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ غُزِيَ المُسْلِمُونَ في عُقْرِ دَارِهِمْ، وَكَثُرَتْ بَيْنَهُمُ الفِتَنُ وَالمُشْكِلَاتُ، وَدَبَّتِ البَغْضَاءُ وَالخِلَافَاتُ، وَفَسَدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاشِئَةِ، وَتَمَرَّدَ كَثِيرٌ مِنَ الأَبْنَاءِ، وَعَمَّتِ الخِلَافَاتُ الزَّوْجِيَّةُ، وَالمَشَاكِلُ الأُسَرِيَّةِ، وَارْتَفَعَتْ نِسْبَةُ الطَّلَاقِ في المُجْتَمَعِ، وَأَصْبَحَتْ حَيَاةُ كَثِيرٍ مِنَ الأُسَرِ جَحِيمَاً لَا يُطَاقُ، كُلُّ هَذَا بِسَبَبِ إِهْمَالِ المُسْلِمِينَ أَمْرَ الأُسْرَةِ، وَانْشِغَالِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ عَنْ تَرْبِيَةِ الأَوْلَادِ، وَنِسْيَانِ أَنَّ الأَبْنَاءَ أَمَانَةٌ في الأَعْنَاقِ سَوْفَ نُسْأَلُ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.

لَقَدْ زَجَّ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ أَبْنَاءَهُمْ في مَهَاوِي الرَّذِيلَةِ وَالعِنَادِ وَأَوْدِيَةِ الضَّيَاعِ وَالدَّمَارِ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُونَ وَمِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَضَيَّعُوا هَذِهِ الأَمَانَةَ العَظِيمَةَ التي سَيُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ.

مَاذَا جَنَتِ الأُمَّةُ عِنْدَمَا انْشَغَلَ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ عَنْ مُتَابَعَةِ الأَبْنَاءِ الذينَ هُمْ أَمَانَةٌ في أَعْنَاقِهِمْ؟ لَقَدْ أَفْرَزَ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ جِيلَاً لَا يَحْمِلُ رِسَالَةً، وَلَا يَعِي هَدَفَاً وَلَا غَايَةً، وَنَسِيَ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ قَوْلَهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً﴾.

فِتْنَةُ الأَوْلَادِ أَخْطَرُ مِنْ فِتْنَةِ المَالِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فِتْنَةُ الأَوْلَادِ أَخْطَرُ مِنْ فِتْنَةِ المَالِ، فَإِنَّهُمْ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ يَعْلَى الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ جَاءَ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ يَسْتَبِقَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: «إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» أَيْ: مَظَنَّةُ البُخْلِ وَالجُبْنِ؛ لِأَجْلِهِ يَبْخَلُ الإِنْسَانِ وَيَجْبُنُ، يَعْنِي أَنَّ وَلَدَكَ يَحْمِلُكَ عَلَى البُخْلِ، تَتَمَنَّى أَنْ تَتَصَدَّقَ فَيَحْمِلُكَ وَلَدُكَ عَلَى البُخْلِ، تَقُولُ: بَدَلَ مَا أُنْفِقُ عَلَى النَّاسِ وَلَدِي أَوْلَى؛ فَلَا تَتَصَدَّقُ لِأَجْلِ الوَلَدِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾.

وَخَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ للبَنَاتِ، فَالفِتْنَةُ فِيهِنَّ أَشَدُّ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، فَبَعْضُ البَنَاتِ سَلَكْنَ طَرِيقَ الطُّغْيَانِ مِنْ تَبَرُّجٍ وَسُفُورٍ، وَمُخَالَطَةٍ للرِّجَالِ، وَالخَلْوَةِ بِغَيْرِ المَحَارِمِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، وَالأَبَوَانِ لَا يُبَالِيَانِ فِيمَا يَحْدُثُ، وَنَسِيَا أَنَّ البِنْتَ أَمَانَةٌ في أَعْنَاقِهِمَا، وَأَنَّهَا عَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، وَاللهُ تعالى سَائِلٌ كُلَّاً مِنْهُمَا عَنْ هَذِهِ العَارِيَةِ ضُيِّعَتْ أَمْ حُفِظَتْ؟

إِذَا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ المُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: «وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَهَلْ يَرْضَى كُلٌّ مِنَ الأَبَوَيْنِ بِهَذَا الوَصْفِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَوْدَةٌ عَلَى بَدْءٍ، الأَمْوَالُ وَالأَوْلَادُ أَمَانَةٌ عِنْدَنَا، وَعَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، لَقَدْ سَلَّمَنَا اللهُ تعالى الأَبْنَاءَ عَلَى الفِطْرَةِ، فَهَلْ حَافَظْنَا عَلَى الفِطْرَةِ التي فُطِرُوا عَلَيْهَا، أَمْ ضَيَّعْنَاهَا؟

أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ (وَهِيَ مَقْطُوعَةُ الأُذُنِ أَو غَيْرِهَا مِنَ الأَعْضَاءِ؛ وَمَعْنَاهُ أَنَّ البَهِيمَةَ تَلِدُ بَهِيمَةً كَامِلَةَ الأَعْضَاءِ لَا نَقْصَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَحْدُثُ فِيهَا الجَدْعُ وَالنَّقْصُ بَعْدَ وِلَادَتِهَا)»؟ رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الأَمَانَةِ، لَعَلَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْفَعَنَا بِهِمْ في دُنْيَانَا بِبِرِّهِمْ لَنَا، وفي عَالَمِ البَرْزَخِ بِدُعَائِهِمْ لَنَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وفي الآخِرَةِ يَجْمَعُنَا اللهُ تعالى مَعَهُمْ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَوْنِ هَذِهِ الأَمَانَةِ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 2/ ربيع الثاني /1440هـ، الموافق: 9/ كانون الأول / 2018م