129ـ مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم: رسالة سيدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنهُ للقضاة

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

129ـ رسالة سيدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنهُ للقضاة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا ضَعُفَ الدِّينُ في النُّفُوسِ، وَغَابَ الوَازِعُ الإِيمَانِيُّ وَالخَوْفُ مِنَ اللهِ تعالى مِنَ القُلُوبِ، تَسُوءُ الأَخْلَاقُ، وَتَقْسُو القُلُوبُ، وَتَضِيقُ النُّفُوسُ، وَتَنْتَشِرُ الأَنَانِيَّةُ وَالجَشَعُ وَالطَّمَعُ، وَتَتَطَلَّعُ النُّفُوسُ إلى حُقُوقِ الآخَرِينَ وَتَسْتَوْلِي عَلَيْهَا بِالحِيلَةِ وَالمَكْرِ وَالخِدَاعِ وَالتَّحَايُلِ، أَو تَسْتَوْلِي عَلَيْهَا بِالقُوَّةِ وَالظُّلْمِ وَالغَصْبِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا ضَعُفَ الإِيمَانُ في القُلُوبِ، كَثُرَتِ الخُصُومَاتُ، وَضَجَّتِ المَحَاكِمُ بِالقَضَايَا وَالنِّزَاعَاتِ، وَازْدَادَتِ الحِيَلُ، وَكَثُرَتْ شَهَادَاتُ الزُّورِ وَالأَيْمَانُ الكَاذِبَةُ الفَاجِرَةُ، وَتَعَقَّدَتِ الأُمُورُ، وَسَعَى كُلُّ خَصْمٍ جَاهِدَاً للغَلَبَةِ وَالانْتِصَارِ عَلَى خَصْمِهِ وَإِبْطَالِ دَعْوَاهُ بِأَيِّ سَبِيلٍ كَانَ، وَتَجَلَّى العِنَادُ وَاضِحَاً في الخُصُومَاتِ، وَدُفِعَتِ الأَمْوَالُ الطَّائِلَةُ لِإِبْطَالِ الحَقِّ، وَإِحْقَاقِ البَاطِلِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تعالى، وَعَدَمُ اليَقِينِ في لِقَائِهِ وَالوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ للجَزَاءِ وَالحِسَابِ أَوْصَلَنَا إلى مَا وَصَلْنَا إِلَيْهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، لَقَدْ نَسِيَ الكَثِيرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. نَسِيَ الكَثِيرُ الوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى، لِذَا اشْتَدَّتِ العَدَاوَاتُ وَالخُصُومَاتُ.

رِسَالَةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إلى القُضَاةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ صَلَاحَ الأُمَّةِ اليَوْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَوْدَتِهَا إلى مَا صَلَحَتْ بِهِ الأُمَّةُ سَابِقَاً، وَمَا صَلَحَتِ الأُمَّةُ سَابِقَاً إِلَّا بِالالْتِزَامِ بِهَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يُذْكَرُ بِأَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ تَوَلَّى القَضَاءَ في زَمَنِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ سَنَةً كَامِلَةً، لَمْ يَخْتَصِمْ إِلَيْهِ اثْنَانِ، لَمْ يَعْقِدْ جَلْسَةَ قَضَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَعِنْدَهَا طَلَبَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إِعْفَاءَهُ مِنَ القَضَاءِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِنْ مَشَقَّةِ القَضَاءِ تَطْلُبُ الإِعْفَاءَ يَا عُمَرُ!

قَالَ عُمَرُ: لَا يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ؛ وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ بِي عِنْدَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، عَرَفَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا لَهُ مِنْ حَقٍّ، فَلَمْ يَطْلُبْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبٍ فَلَمْ يُقَصِّرْ في أَدَائِهِ، أَحَبَّ كُلٌّ مِنْهُمْ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، إِذَا غَابَ أَحَدُهُمْ تَفَقَّدُوهُ، وَإِذَا مَرِضَ عَادُوهُ، وَإِذَا افْتَقَرَ أَعَانُوهُ، وَإِذَا احْتَاجَ سَاعَدُوهُ، وَإِذَا أُصِيبَ عَزُّوهُ وَوَاسُوهُ، دِينُهُمُ النَّصِيحَةُ، وَخُلُقُهُمُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، فَفِيمَ يَخْتَصِمُونَ؟

وَعِنْدَمَا صَارَ الفَارُوقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَمِيرَاً عَلَى المُؤْمِنِينَ جَعَلَ دُسْتُورَاً في القَضَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ رِسَالَتِهِ لِسَيِّدِنَا أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عِنْدَمَا جَعَلَهُ قَاضِيَاً.

روى الدارقطني عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِي إِلَيْكَ بِحُجَّةٍ، وَأَنْفِذِ الْحَقَّ إِذَا وَضَحَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ، حَتَّى لَا يَيْأَسَ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِكَ، وَلَا يَطْمَعَ الشَّرِيفُ فِي حَيْفِكَ.

الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحَاً أَحَلَّ حَرَامَاً أَوْ حَرَّمَ حَلَالَاً.

لَا يَمْنَعُكُ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَمُرَاجَعَةَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ.

الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يُخْتَلَجُ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، اعْرِفِ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ ثُمَّ قِسِ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ فَاعْمَدْ إِلَى أَحَبِّهَا عِنْدَ اللهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى، وَاجْعَلْ لِمَنِ ادَّعَى بَيِّنَةً أَمَدَاً يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذَ بِحَقِّهِ، وَإِلَّا وَجَّهْتَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى، وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ.

المُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلَّا مَجْلُودٌ فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبٌ فِي شَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ ظَنِينٌ فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ.

إِنَّ اللهَ تَوَلَّى مِنْكُمُ السَّرَائِرَ، وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.

وَإِيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّيَ بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ لِلْخُصُومِ فِي مَوَاطِنَ الْحَقِّ الَّتِي يُوجِبُ اللهُ بِهَا الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ بِهَا الذُّخْرَ، فَإِنَّهُ مَنْ يُصْلِحْ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ يَكْفِهِ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ.

وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ يَشِنْهُ اللهُ (أَيْ يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ)، فَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابِ غَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ؛ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا هُوَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، جَمَعَ في رِسَالَتِهِ هَذِهِ آدَابَ القَاضِي، وَأُصُولَ المُحَاكَمَةِ، وَلَو لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مِنَ الآثَارِ غَيرُهَا، لَعُدَّ بِهَا مِنْ كِبَارِ المُفَكِّرِينَ وَالمُشَرِّعِينَ في العَالَمِ.

لَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ مِنْ قَلْبِهِ المُنَوَّرِ، الذي لَمْ يَسْتَطِعِ الشَّيْطَانُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، بِشَهَادَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الشيخان عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكَاً فَجَّاً إِلَّا سَلَكَ فَجَّاً غَيْرَ فَجِّكَ».

هَذَا هُوَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ الذي كَانَ غَرْسَةً مِنْ غَرْسَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هَذَا هُوَ سَيِّدُنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ الذي الْتَزَمَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾. فَكَانَ مُلْهَمَاً، كَمَا شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ، فَإِنَّهُ عُمَرُ».

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرُدَّنَا إلى دِينِهِ رَدَّاً جَمِيلَاً، وَأَنْ يُصْلِحَ لَنَا قُضَاتَنَا، وَأَنْ يُلْهِمَهُمُ الرُّشْدَ وَالسَّدَادَ وَالنَّظَرَ وَالالْتِزَامَ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لِسَيِّدِنَا أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 3/ محرم /1440هـ، الموافق: 13/ أيلول / 2018م