645ـ خطبة الجمعة: المغالاة في المهور

 

645ـ خطبة الجمعة: المغالاة في المهور

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَشَاكِلُنَا عَوِيصَةٌ وَعَوِيصَةٌ جِدَّاً، وَمِنْ أَعْظَمِهَا وَأَعْمَقِهَا أَثَرَاً في حَيَاتِنَا مُشْكِلَةُ الزَّوَاجِ، آلَافٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنَ البَنَاتِ في سِنِّ الزَّوَاجِ لَا يَجِدْنَ خَاطِبَاً، وَآلَافٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنَ الشَّبَابِ عَازِفُونَ عَنِ الزَّوَاجِ، وَلَا يُرِيدُونَهُ لِصُعُوبَةِ الوُصُولِ إِلَيْهِ.

هَذِهِ المُشْكِلَةُ الخَطِيرَةُ وَالعَوِيصَةُ وَاللهِ إِنْ لَمْ يَتَفَطَنْ إِلَيْهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ وَالدُّعَاةُ وَالمُصْلِحُونَ، وَلَمْ يُيَسِّرُوا السَّبِيلَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ سَيَقَعُونَ تَحْتَ الوَعِيدِ الإِلَهِيِّ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

وَتَحْتَ الوَعِيدِ النَّبَوِيِّ: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، مِنْ جُمْلَةِ مَا اكْتَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ عُزُوبَةُ الرِّجَالِ، وَعُنُوسَةُ النِّسَاءِ، مِمَّا أَدَّى إلى انْتِشَارِ الفَاحِشَةِ، عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ عَلِمَ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

إِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ   ***   وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيبَةُ أَعْظَمُ

المُغَالَاةُ في المُهُورِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ هَذِهِ المُشْكِلَةِ العَوِيصَةِ مُشْكِلَةِ العُزُوبَةِ وَالعُنُوسَةِ هِيَ المُغَالَاةُ في المُهُورِ، التي أَفْسَدَتْ حَيَاةَ البَنَاتِ وَالشَّبَابِ، وَأَدَّتْ إِلى العُزُوْبَةِ وَالعُنُوسَةِ الُمدَّمِرَةِ.

المُغَالَاةُ في المُهُورِ لَيْسَ فِيهَا نَفْعٌ لِأَحَدٍ البَتَّةَ، بَلْ هِيَ التَّفَاخُرُ وَالتَّكَاثُرُ وَالشُّهْرَةُ وَالسُّمْعَةُ وَالرِّيَاءُ، مِمَّا أَدَّى إلى كَثْرَةِ العُنُوسَةِ، وَصَارَتِ الفَتَاةُ عُرْضَةً للفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، حَتَّى وَقَعَ مَا حَذَّرَ اللهُ تعالى مِنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا يَجُوزُ للأَبَوَيْنِ أَنْ يَسْتَغِلُّوا حَيَاءَ البَنَاتِ، لِأَنَّ لِسَانَ حَالِهِنَّ يُخَاطِبُ الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ وَيَقُولُ: ارْحَمُوا ضَعْفَنَا، وَاسْتُرُوا عَوْرَاتِنَا، وَوَافِقُوا عَلَى زَوَاجِنَا وَلَو كَانَ الخَاطِبُ فَقِيرَاً، اتَّقُوا اللهَ فِينَا، وَدَعُونَا أَنْ نَصُونَ أَعْرَاضَنَا، وَكُونُوا عَوْنَاً لَنَا عَلَى غَضِّ البَصَرِ، وَتَحْصِينِ الفَرْجِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ سُنَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَيْسِيرَ أَمْرِ الزَّوَاجِ، وَكَانَتْ سُنَّتُهُ تَهْوِينَ أَمْرِ الزَّوَاجِ، لَقَدْ كَانَ مَهْرُ نِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ غَايَةً في التَّوَاضُعِ لِيَكُونَ مَثَلَاً يُقْتَدَى بِهِ، وَكَانَ مَضْرِبَ المَثَلِ في التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ.

بَلْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبْ في تَيْسِيرِ المُهُورِ وَالصَّدَاقِ، روى الحاكم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ».

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْـسَرُهُنَّ صَدَاقَاً» رواه الحاكم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَلَا لَا تُغَالُوا صَدَاقَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللهِ، كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا، وَأَحَقَّكُمْ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا أَصْدَقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ أُوقِيَّةً. رواه الحاكم.

يَا عِبَادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ في بَنَاتِكُمْ، وَلَا تَمْنَعُوهُنَّ مِنَ الزَّوَاجِ مِنْ أَجْلِ أَهْوَائِكُمْ وَرَغَبَاتِكُمُ الشَّخْصِيَّةِ، وَمِنْ أَجْلِ المَطَامِعِ المَادِّيَّةِ، فَإِنَّهُنَّ أَمَانَاتٌ في أَعْنَاقِكُمْ، وَقَدِ اسْتَرْعَاكُمُ اللهُ عَلَيْهِنَّ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.

لَا يَكُنْ هَمُّكُمُ الطَّمَعَ في المُهُورِ، وَالمُبَاهَاةَ وَالمُفَاخَرَةَ في الظَّاهِرِ وَاسْتِئْجَارَ أَفْضَلِ الصَّالَاتِ، وَشِرَاءَ البُيُوتِ، وَالتَّضْيِيقَ عَلَى الشَّبَابِ، وَاعْتَبِرُوا بِالبُيُوتِ التي رَفَضَتِ الزَّوَاجَ إِلَّا بِمُهُورٍ غَالِيَةٍ، وَمَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ فَسَادِ الأَخْلَاقِ، وَانْتِهَاكِ الأَعْرَاضِ، وَتَفَكُّكِ الأُسَرِ، وَالزَّوَاجِ الـسِّرِّيِّ بِدُونِ مَهْرٍ وَلَا وَلِيٍّ، وَرُبَّمَا بِدُونِ شُهُودٍ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى﴾. أَدْعُوكُمْ إلى التَّعَاوُنِ في الدَّعْوَةِ إلى تَسْهِيلِ أَمْرِ الزَّوَاجِ، وَإلى بَثِّ رُوحِ التَّعَاوُنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ أَوْلَادٌ يَحْتَاجُ إلى تَزْوِيجِهِمْ، وَلَهُ بَنَاتٌ يَتَمَنَّى لَهُنَّ الزَّوَاجَ وَالعَفَافَ، يَسِّرُوا يُيَسَّرْ لَكُمْ، وَلَا تُعَسِّرُا فَيُعَسَّرْ عَلَيْكُمْ.

أَيُّهَا الأَبُ الكَرِيمُ: إِذَا تَقَدَّمَ لِفَتَاتِكَ خَاطِبٌ فَانْظُرْ دِينَهُ وَعَقْلَهُ وَرَجَاحَةَ فِكْرِهِ، فَإِذَا تَوَسَّمْتَ فِيهِ الخَيْرَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَرُدَّهُ لِأَجْلِ المَادَّةِ، فَلَا تَجْعَلِ المَادَّةَ هِيَ المِعْيَارَ في القَبُولِ، وَلَكِنِ اجْعَلِ الدِّينَ وَالخُلُقَ وَالعَقْلَ وَحُسْنَ التَّصَرُّفِ هِيَ الغَايَةَ المَقْصُودَةَ.

وَيَا أَيَّتُهَا الأُمُّ الكَرِيمَةُ: أَعِينِي فَتَاتَكِ عَلَى الزَّوَاجِ، وَكُونِي عَوْنَاً لَهَا في إِقْنَاعِهَا بِصَاحِبِ الدِّينِ وَالخُلُقِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ المَطْلَبُ الشَّرِيفُ، وَلَيْسَ الذَّهَبُ وَاللِّبَاسُ وَالمُقَدَّمُ وَالمُؤَخَّرُ الكَبِيرُ هُوَ المَطْلَبَ الشَّرِيفَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: المَهْرُ لَيْسَ سِرَّ السَّعَادَةِ، وَالذَّهَبُ لَيْسَ سِرَّ السَّعَادَةِ، قَدْ تُصْبِحُ البِنْتُ عَانِسَةً وَلَمْ تَلْبِسْ ذَهَبَاً، فَلِمَاذَا لَا تُزَوِّجُوهَا بِدُونِ ذَهَبٍ؟ قَدْ تَكُونُ عَانِسَةً وَهِيَ تَعِيشُ مَعَ أَخَوَاتِهَا في غُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ بِثِيَابٍ بَسِيطَةٍ، فَلِمَاذَا الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ البَيْتُ مِلْكَاً، وَأَنْ يَكُونَ في حَيِّ كَذَا وَكَذَا؟

يَا عِبَادَ اللهِ: آلَافٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنَ البَنَاتِ دَخَلْنَ سِنَّ العُنُوسَةِ، وَآلَافٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنَ الشَّبَابِ عَزَفُوا عَنِ الزَّوَاجِ بِسَبَبِ المُغَالَاةِ في المُهُورِ، فَمَاذَا تَنْتَظِرُونَ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ كُلَّ مَا حَوْلَكُمْ مُحَرِّضَاً عَلَى الفِتَنِ، مِنْ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، إلى أَجْهِزَةِ الإِعْلَامِ، إلى الأَفْلَامِ وَالمُسَلْسَلَاتِ، إلى الصُّحُفِ وَالمَجَلَّاتِ وَغَيْرِهَا؟

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ حَفْلَةَ التَّعَارُفِ وَتَكَالِيفَهَا لَيْسَتْ شَرْطَاً في صِحَّةِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَإِنَّ حَفْلَةَ تَلْبِيسِ الخَاتَمِ لَيْسَتْ شَرْطَاً في صِحَّةِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَإِنَّ حَفْلَةَ تَلْبِيسِ الذَّهَبِ لِلعَرُوْسِ  لَيْسَتْ شَرْطَاً في صِحَّةِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَإِنَّ حَفْلَةَ لَيْلَةِ الزِّفَافِ لَيْسَتْ شَرْطَاً في صِحَّةِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَإِنَّ الذَّهَبَ وَالمَهْرَ الغَالِي لَيْسَ شَرْطَاً في صِحَّةِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَإِنَّ شِرَاءَ البَيْتِ لَيْسَ شَرْطَاً في صِحَّةِ عَقْدِ الزَّوَاجِ.

فَلِمَاذَا جَعَلْنَا هَذِهِ الأُمُورَ كُلَّهَا شُرُوطَاً في صِحَّةِ عَقْدِ الزَّوَاجِ؟ تَذَكَّرُوا وَالْتَزِمُوا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. كَفَانَا رِيَاءً وَسُمْعَةً وَشُهْرَةً وَمُفَاخَرَةً، فَمَا حَصَدْنَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إِلَّا الحَسْرَةَ وَالنَّدَامَةَ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 15/ رجب /1440هـ، الموافق: 22/ آذار / 2019م