109ـ كلمات في مناسبات: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ»

 

109ـ كلمات في مناسبات: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الإِسْرَاءَ وَالمِعْرَاجَ لَهُ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ وَثَمَرَاتٌ يَانِعَةٌ، وَالإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِهَا يَحْتَاجُ إلى إِيمَانٍ بالذي أَسْرَى بِحَبِيبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكُلَّمَا عَظُمَ الإِيمَانُ عَظُمَ التَّصْدِيقُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَثُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ أَظْهَرَ إِيمَانَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَقْوَى إِيمَانِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا أَخْبَرَهُ المُشْرِكُونَ عَنْ إِسْرَاءِ وَمِعْرَاجِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ.

قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟

قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. رواه الحاكم.

حَدَّثَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ عَنِ الإِسْرَاءِ فَقَطْ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ حِكْمَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَدَّثَ قَوْمَهُ عَنْ مُعْجِزَةِ الإِسْرَاءِ دُونَ المِعْرَاجِ، فَإِنْ صَدَّقُوهَا صَدَّقُوا مَا بَعْدَهَا، وَإِنْ كَذَّبُوهَا فَتَكْذِيبُ المِعْرَاجِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

روى الإمام البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الحِجْرِ فَجَلَّى اللهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ».

وفي رِوَايَةٍ لِأَبِي يَعْلَى قَالَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ: كُلُّ أَمْرِكَ قَبْلَ اليَوْمِ كَانَ أَمَمَاً غَيْرَ قَوْلِكَ اليَوْمَ، أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ كَاذِبٌ، نَحْنُ نَضْرِبُ أَكْبَادَ الإِبِلِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ مُصْعِدَاً شَهْرَاً، وَمُنْحَدِرَاً شَهْرَاً، تَزْعُمُ أَنَّكَ أَتَيْتَهُ فِي لَيْلَةٍ؟ وَاللَّاتِ وَالعُزَّى لَا أُصَدِّقُكَ، وَمَا كَانَ هَذَا الَّذِي تَقُولُ قَطُّ، وَكَانَ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ حَوْضٌ عَلَى زَمْزَمَ، أَعْطَاهُ إِيَّاهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ، فَهَدَمَهُ، فَأَقْسَمَ بِاللَّاتِ وَالعُزَّى لَا يَسْقِي مِنْهُ قَطْرَةً أَبَدَاً.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ: يَا مُطْعِمُ، بِئْسَ مَا قُلْتَ لِابْنِ أَخِيكَ جَبَهْتَهُ وَكَذَّبْتَهُ، أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ صَادِقٌ.

فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، صِفْ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ.

قَالَ: «دَخَلْتُهُ لَيْلَاً، وَخَرَجْتُ مِنْهُ لَيْلَاً».

فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَصَوَّرَهُ فِي جَنَاحِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «بَابٌ مِنْهُ كَذَا فِي مَوْضِعِ كَذَا، وَبَابٌ مِنْهُ كَذَا فِي مَوْضِعِ كَذَا».

وَأَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ عِنْدَهُ يَقُولُ: صَدَقْتَ، صَدَقْتَ.

قَالَتْ نَبْعَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمَّاكَ الصِّدِّيقَ».

قَالُوا: يَا مُطْعِمُ، دَعْنَا نَسْأَلْهُ عَمَّا هُوَ أَغْنَى لَنَا مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ، يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا.

فَقَالَ: «أَتَيْتُ عَلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِالرَّوْحَاءِ قَدْ أَضَلُّوا نَاقَةً لَهُمْ، وَانْطَلَقُوا فِي طَلَبِهَا، فَانْتَهَيْتُ إِلَى رِحَالِهِمْ لَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِذَا قَدَحُ مَاءٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، فَسَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ».

فَقَالُوا: هَذَا وَالإِلَهِ آيَةٌ.

قَالَ: «ثُمَّ انْتَهَيْتُ إِلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ، فَنَفَرَتْ مِنِّي الإِبِلُ، وَبَرَكَ مِنْهَا جَمَلٌ أَحْمَرُ، عَلَيْهِ جَوَالِقُ ـ هُوَ الوِعَاءُ مِنْ جُلُودٍ وَثِيَابٍ وَغَيْرِهَا ـ مُحِيطٌ بِبَيَاضٍ، لَا أَدْرِي أَكُسِرَ البَعِيرُ أَمْ لَا، فَسَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ».

قَالُوا: هَذِهِ وَاللهِ آيَةٌ.

قَالَ: «ثُمَّ انْتَهَيْتُ إِلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ فِي التَّنْعِيمِ، يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ، وَهَا هِيَ ذِهِ تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنَ الثَّنِيَّةِ».

فَقَالَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ: سَاحِرٌ.

فَانْطَلَقُوا، فَنَظَرُوا، فَوَجَدُوا الأَمْرَ كَمَا قَالَ، فَرَمَوْهُ بِالسَّحَرِ، وَقَالُوا: صَدَقَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ فِيمَا قَالَ.

فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ حَادِثَةَ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ تُعَلِّمُ الأُمَّةَ عِلْمَ اليَقِينِ وُجُوبَ الرَّبْطِ بَيْنَ المَسْجِدِ الأَقْصَى وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ، وَتُعَلِّمُ الأُمَّةَ أَنَّ المَسْجِدَ الأَقْصَى هُوَ مَسْرَى نَبِيِّهَا سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمِعْرَاجُهُ إلى السَّمَاوَاتِ العُلَى، وَأَنَّهُ كَانَ قِبْلَةَ المُسْلِمِينَ الأُولَى خِلَالَ الفَتْرَةِ المَكِّيَّةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلَّمَا الْتَزَمَتِ الأُمَّةُ كِتَابَ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةَ نَبِيِّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَكَّنَهَا اللهُ تعالى في الأَرْضِ وَأَعَزَّهَا، وَكُلَّمَا ابْتَعَدَتْ عَنْ مَنْهَجِ رَبِّهَا سَلَّطَ الله تعالى عَلَيْهَا عَدُوَّهَا، وَهَذَا مَا يُؤَكِّدُهُ الوَاقِعُ.

فَهَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَلَّمَ الأُمَّةَ المَسْجِدَ الأَقْصَى مُحَرَّرَاً، وَعِنْدَمَا بَقِيَتِ الأُمَّةُ مُلْتَزِمَةً كَانَ عِزُّهَا قَائِمَاً، وَلَكِنْ عِنْدَمَا ابْتَعَدَتْ عَنْ نَهْجِ رَبِّهَا تَمَكَّنَ مِنْهَا عَدُوُّهَا وَعَادُوا إلى الأَقْصَى ثَانِيَةً، وَمَكَثُوا فِيهِ قُرَابَةَ قَرْنٍ يَعِيثُونَ فِيهِ فَسَادَاً.

عَادَتِ الأُمَّةُ إلى رُشْدِهَا وَصَوَابِهَا، وَعَادَتْ إلى الالْتِزَامِ بِكِتَابِ رَبِّهَا، وَجَاءَ سَيِّدُنَا صَلَاحُ الدِّينِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَكَانَ بِهِ صَلَاحُ دِينِ الأُمَّةِ، فَحَرَّرَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ رِجْسِ الصَّلِيبِيِّينَ.

وَعَادَتِ النَّكْسَةُ للأُمَّةِ في دِينِهَا، فَعَادَ اليَهُودُ وَاحْتَلُّوا القُدْسَ الشَّرِيفَ، وَلَنْ تَتَخَلَّصَ الأُمَّةُ مِنْ رِجْسِ هَؤُلَاءِ إِلَّا بِالعَوْدَةِ إلى كِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأَقْصَى يُنَاشِدُنَا العَوْدَةَ إلى كِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَسِيرَتِهِ العَطِرَةِ، لِأَنَّ وَعْدَ اللهِ تعالى لَا يُخْلَفُ، قَالَ تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَـضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَاً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئَاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون﴾.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 28/ رجب /1440 هـ، الموافق: 4/ نيسان / 2019م