25ـ نحو أسرة مسلمة: الصادق مبتلى والكذَّاب مستدرج

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

خلاصة الدرس الماضي:

فإن ظاهرة الكذب التي تفشِّت بين الأبناء ظاهرة خطيرة يجب علينا أن نُعيرها اهتمامنا، وقلنا في الدرسين الماضيين يجب علينا:

أولاً: أن نكون قدوة صالحة لأبنائنا ولمن استرعانا الله عز وجل عليهم، أن نكون صادقين أمامهم في أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا، وحتى يجب علينا أن لا نسلك طريق التورية معهم، لأن التورية تكون من الضعيف أمام القوي، فأنت الأقوى في بيتك أمام أبنائك، و أنت الأقوى في دائرتك أمام الموظفين عندك، وأنت الأقوى في إمامتك أمام مأموميك، فكن صادقاً حتى تؤثر فيمن هو دونك وخاصة في زوجتك وأبنائك.

ثانياً: أن نأخذ من القرآن العظيم ومن السنة المطهرة أسلوب الترغيب والترهيب في تربية أبنائنا، وأن نذكِّرهم بمثل قول الله عز وجل: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}. فحتى تنتفع من عبادتك يجب عليك أن تكون صادقاً فيها بأن تكون خالصة لوجه الله عز وجل، لأنك تقول أصلي لله، أتصدق لله، أحجّ لله، أفعل الخير لله، فكن صادقاً فيما تقول حتى تنتفع بإذن الله تعالى.

وبمثل قول الله عز وجل: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِين}.

وبمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) رواه مسلم.

الصادق مبتلى والكذَّاب مستدرج:

ولكن يجب علينا أن نُعلِّم أبناءنا بأنَّ الصادقَ مبتلى والكذَّابَ مستدرج، فاحذر أن تفتن في ذلك، يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: (لأن يضعني الصدق ـ وقلَّما يضع ـ أحبُّ إليَّ من أن يرفعني الكذب ـ وقلَّما يفعل).

قد يخفضُ الصدقُ العبدَ فترةً من الزمن اختباراً وابتلاءً، وقد يرفع الكذبُ العبد فترة من الزمن استدراجاً، والله تعالى ناظر للعبدين هل يصبر الأول ويثبت على الحق أم يفتن في دينه؟ وهل يتوب الثاني ويرجع إلى الله تعالى لأنه على الباطل أم يستمر على كذبه؟

فإذا ثبت الأول رفعه الله في الدنيا قبل الآخرة، ومن يرفعه الله تعالى لا يستطيع أحد أن يخفضه؟ وإن استمر الثاني على كذبه خفضه الله تعالى، ومن يخفضه الله تعالى لا يستطيع أحد أن يرفعه.

مثالان:

الأول: رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين:

أيُّها الإخوة: هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، الذي ما جُرِّبَ عليه الكذب قط قبل الرسالة فضلاً عمَّا بعد الرسالة، ابتلاه الله عز وجل أيِّما ابتلاء، فصبر أيَّما صبر.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) رواه أحمد.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلا جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ) رواه البخاري ومسلم.

في ظاهر الأمر الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم حلَّ به ما حلَّ بسبب صدقه في تبليغ رسالته صلى الله عليه وسلم، فما هي النتيجة؟

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَك * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك}. فما يُذكر الله تعالى إلا و يُذكر معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل تتصور أنَّه تمرُّ لحظة من اللحظات أو جزء من الثانية في الدنيا دون أن يُذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقروناً اسمه مع اسم الله عز وجل، هذه النتيجة الأولى.

الثانية: يوم فتح مكة انظر إلى تلك الرفِّعة مع عظيم تواضعه صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، مَاذَا تَقُولُونَ؟ وَمَاذَا تَظُنّونَ؟) قَالُوا: نَقُولُ خَيْرًا وَنَظُنّ خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، وَقَدْ قَدَرْت. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: (فَإِنّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ}) رواه البيهقي. الرفعة ما أسكرته صلى الله عليه وسلم ـ حاشاه من ذلك ـ، ووقف أمامه الذين فعلوا به ما فعلوه مع كذبهم، احتقروا أنفسهم أيَّما احتقار، وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مَاذَا تَقُولُونَ وَمَاذَا تَظُنّونَ أني فَاعِلٌ بِكُم؟) قَالُوا: نَقُولُ خَيْرًا وَنَظُنّ خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، وَقَدْ قَدَرْت. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: (فَإِنّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ}). انظر إلى هذه الرفعة التي رفعه الله تعالى إيَّاها، وكيف وضع الله المشركين.

الثالثة: في الآخرة صاحب المقام المحمود: أما في الآخرة فتحدث عن رفعته صلى الله عليه وسلم بلا حرج، عندما يتوجَّه أهل المحشر باحثين عن شفيع لهم، فيذهبون إلى أب البشر سيدنا آدم عليه السلام فيعتذر، ثم يتوجهون إلى السادة من الأنبياء والمرسلين، إلى أولي العزم من الرسل، فيعتذر سيدنا نوح عليه السلام، ثم يعتذر سيدنا إبراهيم عليه السلام، ثم يعتذر سيدنا موسى عليه السلام، ثم يعتذر سيدنا عيسى عليه السلام، فيأتي الجميع إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أَنَا لَهَا، فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لا أَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآنَ، يُلْهِمُنِيهِ اللَّهُ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي. فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ) رواه مسلم. هل ترى أعظم من هذا الرفع؟

انظر إلى زُوَّاره صلى الله عليه وسلم بعد موته، يتوسَّلون به، بدون صورة، وبدون تمثال، هيبة ووقار، والجميع يقف أمام قبره الشريف بكامل الأدب، تأخذهم القشعريرة وترتعد الفرائص هيبة وإجلالاً لمقامه الشريف صلى الله عليه وسلم، الجميع خافض صوته ورأسه، يتوسَّلون به صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى كما كانوا يتوسَّلون به صلى الله عليه وسلم في الدنيا.

فهل رأيت رفعة أعظم من هذه الرفعة؟ نعم الصدق يرفع في نهاية المطاف ولكن بعد الابتلاء.

الثاني: فرعون سيدنا موسى عليه السلام:

أما المثال الثاني: فهو فرعون سيدنا موسى عليه السلام، هذا الكذَّاب، كذب على نفسه وكذب على قومه، ووصل إلى درجة عظيمة في الافتراء والكذب، فقال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}. وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}. وهو يعرف نفسه أنَّه كذَّاب فيما يقول. قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَاب * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَاب}.

وهو يعلم أنَّه كذَّاب في قوله، فما هي النتيجة؟

الأولى: عندما أدركه الغرق قال: آمنت أنَّه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، كما قال تعالى في حقه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين}.

الثانية: في قبره، قال تعالى في حقه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب}.

الثالثة: يوم القيامة، يقول الله تعالى فيه: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُود}. بئس هذا التقدُّم الذي يتقدَّم به قومه حيث يتقدَّم بهم إلى نار جهنم وبئس المصير.

الرابعة: في زيارته بعد أن نجَّى الله بدنه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}. كيف يراه الناس؟ هذا هو من أكذب خلق الله تعالى، هذا هو الذي قال ما قال، فهل من معتبر؟

نعم الكذب في ظاهر الأمر رفع فرعون فترة، حتى قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُون}. ولكن تلك هي النتيجة، لقد كان مُستدرَجاً.

فاعلم يا أخي وعلِّم أبناءك بأنَّ الصادق مبتلى، فيجب عليه أن يصبر، فإنَّ العاقبة محمودة، وبأنَّ الكاذب مستدرَج فيجب عليه أن يحذره لأنَّ العاقبة وخيمة.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصادقين الصديقين مع أصولنا وفروعنا وأزواجنا وأحبابنا. آمين.

** ** **