113ـ كراهيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إطلاق بعض الكلمات مخافة إيهامه

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

113ـ كراهيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إطلاق بعض الكلمات مخافة إيهامها

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: كَرَاهِيَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِطْلَاقَ بَعْضِ الكَلِمَاتِ مَخَافَةَ إِيهَامِهَا:

جَاءَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي».

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: جَأَشَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي»

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قَالَ العُلَمَاءُ: مَعْنَى لَقِسَتْ وَجَأَشَتْ: غَثَتْ (يُقَالُ: غَثَتِ النَّفْسُ، تَغْثِي، غَثْيَاً، وَغَثَيَانَاً: إِذَا اضْطَرَبَتْ، حَتَّى كَادَتْ تَتَقَيَّأُ).

قَالُوا: وَإِنَّمَا كَرِهَ خَبُثَتْ لِلَفْظِ الخُبْثِ وَالخَبَثِ.

وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الخَطَّابِيُّ: لَقِسْتْ وَخَبُثَتْ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا كَرِهَ خَبُثَتْ، لِلَفْظِ الخُبْثِ وَبَشَاعَةِ الاسْمِ مِنْهُ، وَعَلَّمَهُمُ الأَدَبَ في اسْتِعْمَالِ الحَسَنِ مِنْهُ، وَهُجْرَانِ القَبِيحِ. اهـ.

يَعْنِي: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ أَنْ يُضِيفَ المُسْلِمُ لِنَفْسِهِ كَلِمَةً فِيهَا خُبْثٌ وَبَشَاعَةٌ، فَإِنَّ المُسْلِمَ أَكْرَمُ مِنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ ذَلِكَ: نَهْيُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ لِسَيِّدِهِ: رَبِّي، بَلْ يَقُولَ: سَيِّدِي وَمَوْلَايَ، وَنَهْيُهُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ، عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي، وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ، وَفَتَاتِي.

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمُ ـ أَيْ: لِغَيْرِهِ مِنَ المَخْلُوقَاتِ ـ رَبِّي؛ وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلَايَ».

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضَاً: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ وَفَتَاتِي».

وَالحِكْمَةُ في هَذَا النَّهْيِ: إِغْلَاقُ بَابِ المُوهِمَاتِ سَدَّاً للذَّرِيعَةِ، وَإِيقَافُ نُفُوسِ أَصْحَابِ الغِلْمَانِ وَالجَوَارِي عَنِ التَّطَاوُلِ وَالغَطْرَسَةِ وَالتَّرَفُّعِ وَالكِبْرِ.

وَفِي ذَلِكَ أَيْضَاً: تَكْرِيمٌ للغِلْمَانِ وَالجَوَارِي، وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِمْ، وَجَبْرٌ لِقُلُوبِهِمْ.

وَمِنْ ذَلِكَ: تَحْذِيرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ مِنْ أَنْ يَقُولَ: هَلَكَ النَّاسُ، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ انْتِقَاصَهُمْ وَاحْتِقَارَهُمْ، وَتَنْزِيهَ نَفْسِهِ وَتَفْضِيلَهَا عَلَيْهِمْ:

رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ».

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: رُوِيَ أَهْلَكُهُمْ بِرَفْعِ الكَافِ وَفَتْحِهَا: وَالمَشْهُورُ الرَّفْعُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ في الحِلْيَةِ: «فَهُوَ مِنْ أَهْلَكِهِمْ».

ثُمَّ قَالَ: قَالَ الحُمَيْدِيُّ: وَالأَشْهَرُ الرَّفْعُ، أَيْ: أَشَدُّهُمْ هَلَاكَاً، وَذَلِكَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ، وَالاحْتِقَارِ لَهُمْ، وَتَفْضِيلِ نَفْسِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي سِرَّ اللهِ تعالى في خَلْقِهِ. اهـ.

يَعْنِي أَنَّ المُحْتَقِرَ لِغَيْرِهِ رُبَّمَا سَاءَ عَمَلُهُ، وَخُتِمَ لَهُ بِسُوءِ العَاقِبَةِ، وَأَنَّ المُحْتَقَرَ رُبَّمَا صَلُحَ أَمْرُهُ، وَخُتِمَ لَهُ بِحُسْنِ العَاقِبَةِ.

اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ.

وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قَالَ الخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَعِيبُ النَّاسَ، وَيَذْكُرُ مَسَاوِئَهُمْ، وَيَقُولُ: فَسَدَ النَّاسُ وَهَلَكُوا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ، أَيْ: أَسْوَأُ حَالَاً فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الإِثْمِ في عَيْبِهِمْ، وَالوَقِيعَةِ فِيهِمْ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إلى العُجْبِ بِنَفْسِهِ وَرُؤْيَتِهِ أَنَّ لَهُ فَضْلَاً عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ؛ فَيَهْلَكُ. اهـ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ سَنَدَ هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَأَنَّهُ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ:

إِذَا قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّنَاً لِمَا يَرَى فِي النَّاسِ ـ يَعْنِي فِي أَمْرِ دِينِهِمْ ـ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسَاً.

وَإِذَا قَالَ ذَلِكَ عُجْبَاً بِنَفْسِهِ، وَتَصَاغُرَاً لِلنَّاسِ، فَهُوَ المَكْرُوهُ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: فَهَذَا تَفْسِيرٌ بِإِسْنَادٍ في نِهَايَةٍ مِنَ الصِّحَّةِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ في مَعْنَاهُ ـ أَيْ: مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ ـ وأوجز، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. اهـ. كَمَا في الأَذْكَارِ.

فَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ، وَيَحْتَقِرَ غَيْرَهُ، أَو أَنْ يُكْرِمَ نَفْسَهُ، وُيُزْرِيَ بِغَيْرِهِ مِنَ المُسْلِمِينَ المُخَلِّطِينَ، وَلَكِنْ لِيَأْسَفْ عَلَيْهِمْ وَلْيَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَلْيَدْعُ اللهَ تعالى لَهُمْ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَجَاءَ في بَلَاغَاتِ الإِمَامِ مَالِكٍ التي أَوْرَدَهَا في المُوَطَّأِ: أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ، فَتَقْسُوا قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ؛ وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ، وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ (فَلَا يَنْظُرِ المُسْلِمُ إلى ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّهُ رَبٌّ مُنَزَّهٌ عَنِ الذُّنُوبِ وَالعُيُوبِ، وَأَنَّ النَّاسَ عَبِيدٌ مُحْتَقرُونَ، مَهِينُونَ بِذُنُوبِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ المُسْلِمُ إلى عُيُوبِ نَفْسِهِ وَذُنُوبِهَا كَأَنَّهُ عَبْدٌ يَخْشَى أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ، فَإِنَّ الإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ ذُنُوبٍ وَعُيُوبٍ، ظَاهِرَةٍ أَو بَاطِنَةٍ، كَبِيرَةٍ أَو صَغِيرَةٍ).

فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلَىً وَمُعَافَىً، فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلاَءِ، وَاحْمَدُوا الله عَلَى الْعَافِيَةِ. (ارْحَمُوا أَهْلَ البَلَاءِ ـ أَيْ: المُذْنِبِينَ ـ بِالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَالرِّفْقِ في أَمْرِهِمْ وَعَدَمِ احْتِقَارِهِمْ، وَبِالسَّتْرِ عَلَيْهِمْ، وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَى العَافِيَةِ مِنَ الذُّنُوبِ لِيُدِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، كَذَا في شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ عَلَى المُوَطَّأِ).

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 9/ شعبان /1440هـ، الموافق: 15/ نيسان / 2019م